

أحمد سليمان النجار
الهروب الرمادي ..!!
'
من يعرفني يعرف شجاعتي , وتشهد لي بذلك آخر موقعة شهدتها وأبيلتُ فيها بلاءً حسناً , والمشهورة بموقعة ( ذات التباسي )** ..
فلا تظن وأنت تقرأ هذا المقال أني غير ذلك ..
شائع في ثقافتنا أقوال تستحسن الهروب في بعض الأحوال , وتراه قراراً حكيماً وللغاية , ومن هذه الأقوال :
( شرد الجبان ولا مات الله يرحمه ) و مقولة ( الشردة نص المراجل ) ..!!
وهم بذلك لايدعون للجُبنِ ولايستحسنوه , ولكنهم يرونه قراراً شجاعاً , إذا كانت نتائج عدم اتخاذه كارثية على الشخص ..!!
ولعل في القصة التي نُسبت لعنترة بن شداد – ولست متأكداً من صحتها – مثالاً على ذلك , فتروي بعض المصادر :
أن عنترة كان يمشي مُدججاُ بالسلاح , فلمح ثوراً ضخماً مُنطلقاً نحوه , فركض عنترة حتى وجد شجرة فصعد فوقها , ومكث حتى رحل الثور ..!!
وعند نزوله خرج عليه رجلٌ يضحك ساخراً : عنترة وتفر من ثور ؟!!
فقال عنترة : وماأدرى الثور أني عنترة ؟!!
الثبات ومواصلة القتال حتى آخر نفس , أو الفرار حتى آخر خطوة , لامشكلة لي مع هذين القرارين , فمتخذ أحدهما هو أدري بقراره ويتحمل – بالتأكيد – نتائجه ..
مشكلتي مع ماأسميه باالهروب الرمادي , وهو منطقة خطرة للغاية تقع بين القرارين , وخطرهما على الشخص أكبر بكثير من اتخاذه لأحد القرارين السابقين ..
وسأنطلق مباشرة نحو بعض الأمثلة حتى أوضح مقصدي من هذا المُصطلح وأبين بعض مخاطره وأضراره :
ففي الحياة الأسرية
هناك هروب رمادي , يسميه المختصون بالطلاق العاطفي ..
وهو وصول الأمور لطريق مسدود واستعصاء الحل , وبالتالي استحالة الحياة بين الزوجين , وكذلك عدم القدرة – لأي سبب كان – على اتخاذ قرار الانفصال , فيقع الزوجان في فخ الهروب الرمادي , وهو الهروب واللاهروب , وهذه المنطقة لها آثار تدميرية قاتلة على كل عناصر الأسرة , وليس على الزوج أو الزوجة فقط , واللذان يُحرمان من الحصول على كامل حقوقهما الزوجية , مما يدخلهما في نفسية الحرمان والجفاف العاطفي ومايلحقها من اضطرابات نفسية وعصبية وجسدية مختلفة ..!!
فلو قرارا الانفصال , فقد يكون هناك فرصة لأن يشبع كل طرف منهما احتياجاته بالطرق الشرعية المتاحة , وليت الأمر يتوقف هنا , بل من أبسط الآثار المؤلمة ، هو أن تشاهد البنت تعامل أمها مع أبيها والابن كذلك تعامل الأب مع أمه في تلك المنطقة الخطرة , فينشأ لديهما قناعة أن هذه هي الحياة الزوجية وأن هذا هو التعامل بين الأزواج ..!!
ومن أمثلة الهروب الرمادي
في الحياة المهنية
هو ماقد يُقدم عليه البعض في بعض الوظائف والمهن , عندما يشعر بعدم قدرته أو رغبته في مواصلة العمل في الميدان , ولايستطيع أن يترك الوظيفة أو المهنة لغيرها , فيلجأ – كنوع من الهروب الرمادي – إلى الأعمال المكتبية أوالإدارية , ولجوء الموظف إلى الأعمال المكتبية أو الإدارية , إذا كانت لديه رؤية معينة وقدرة وفكر يريد تطبيقه على هذا النوع من العمل , فذلك ليس هروباً أبداً , بل هو مكسب كبير لتلك النوعية من الأعمال , وسيكون عامل تطوير ونماء لتلك الأعمال , ولكنه لو كان هارباً من الميدان , فلن يقدم الكثير , بل إن بعضهم وبمجرد أن يلبس الثوب الاجتماعي لمنصبه الجديد سيبدأ في التنظير وإسقاط ماكان فيه من نقص وتقصير على العاملين في الميدان , وكأنما كان هو فارس الميدان المغوار , ولو رافق ذلك الهروب ميلٌ من الشخص للتسلط على الآخرين وإثبات ذاته من بوابة استصغار من حوله , فسيكون الضرر أشد , ليس على العاملين في الميدان فحسب , بل حتى على العمل نفسه ..!!
بل إن بعضهم , ولأنه يعلم يقيناً حجم إمكانته المتواضعة , فإنه يبدأ في تطبيق مايُسمى بنظرية ( السمكة الكبيرة في حوض أسماك الزينة ) فلا يستقطب حوله إلا الأقل منه قدرة والأكثر منه تواضعاً في الإمكانات , ليتميز من بينهم , ويضمن قيادتهم بسلاسة , ويكون معيار التفاضل عنده , ليس الكفاءة بل الولاء المُطلق فحسب ..!!!
فينشأ - ومع الوقت - هرم إداري يدير الميدان ، ويعج بمنعدمي الكفاية ..!
ومن الأمورالتي أحمد الله عليها كثيراً , أني وطوال فترة عملي لم ألتق بهذه النوعية من الهاربين ، واني عملت مع نماذج إدارية رائعة ومُشرفة ومبدعة للغاية , في كافة أماكنهم الإدارية , اختارت العمل الإداري لأنها تعلم أن لديها ماتضيفه إليه ..
ومن أمثلة الهروب الرمادي
في الحياة الاجتماعية
وهو مانراه في بيوتنا وفي بعض المجالس من غرق الجميع في أجهزتهم المحمولة , فهم في الظاهريجمعهم مكان واحد , ولكنهم في الواقع هاربون رماديون ..!!!
وهناك الكثير من الأمثلة على الهروب الرمادي , وقد أكون أنا أو أحداً منكم هارب رمادي من أمرٍ ما وهو لايشعر ..!!
( التباسي )** :
جمع ( تبسي ) وهو صحن واسع توضع فيه كبسة الأرز واللحم ( المفطحات ) وتُقَدُمُ في المناسبات , ( فيهفُ ) الحضور مافيها بالهناء والعافية , وقد جاء ذلك في بيت لعنترة قال فيه :
يخبرك من حضر الوقيعة أنني **
(أخشى) الوغى و ( أهِفُ ) عند المغنم ..!!
قبل الختام :
من أفضل الكتب التي قرأتها ، وهي قريبة من هذا المعنى :
كتاب المنخفض ( كتاب صغير يعلمك متى تنسحب ومتى تتمسك بموقفك ) , تأليف : سيث جودين .
البيت الأصلي لعنترة :
يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي **
أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ
أحمد سليمان النجار

