

أحمد سليمان النجار
بقلم - أحمد سليمان النجار
عادتْ السيدة إلى متجر بيع المُقتنيات الأثرية، وقالت للبائع: "من فضلك، اشتريتُ بالأمسِ سريرَ (لويس) الخامس عشر، وهو صغير، وأرغب في استبدالهِ بسرير (لويس) السادس عشر.!!"
كثيرٌ من الأشياء في الحياة قابلة للبيع والشراء، وبذلك تنطبق عليها قوانين السوق ، وتصلح معها مهارات التسوق وفنونه ، وهناك أشياءُ غير قابلة لذلك البتة ، ويأتي على رأسها الدين.
فعلى رغم أن الدين اصطدم - وبشكل مباشر - بكثير من الفكر المادي الذي يُمثل جزءاً كبيراً من النسيج الثقافي عند كثير من الفلاسفة وعلماء النفس ، والذي يرى معظمهم أن الإنسان مجرد حيوان عاقل حالفه الحظ ليكون أوفر الكائنات وعياً وأرجحهم عقلاً ليس إلا ، وبذلك يتم التركيز على الحلول المادية فقط ، فمعظمهم يردُ نفسية الإنسان إلى الأصل المادي الفيسيولوجي فحسب؛ وذلك بهدف وصف مشاعر الإنسان بأنها نتاج مادي محض، فتكون السعادة -مثلاً- مجرد تفاعلٍ كيميائي معيّن في الدماغ يختلف عن تلك الكيمياء المسؤولة عن الألم، وهكذا..!!
بينما الدين يذهب إلى أبعد من ذلك ، فيقول بوجود روح لابد من الاعتناء بها ، ويلحّ على ثنائية الإنسان بين مكون مادي ومكون غير مادي، حتى أن القرآن الكريم في الوقت الذي يذكر كلمة (إنسان) عشرات المرات فقط، فهو يذكر كلمة (النفس) أكثر من مئتي مرة! بل إن المكون غير المادي يأتي بعدة كلمات، مرة يأتي بكلمة (نفس)، وأخرى بكلمة (قلب)، ومرة (روح). والقرآن ينص أن تلك النفس تتلوث وتمرض مادامت بعيدة عن الدين، وأن الدين هو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
وفي نظري أن الدين يُمثل قواعد عامة - ثوابت - عبقرية وصالحة لكل زمان ولكل مكان ، وهي كفيلة بأن تضعك - وفي أي موضوع - على المسار الصحيح ، ولاتلتفتُ للتفاصيل - متغيرات - أياً كانت، فأنت إن التزمت بالقاعدة العامة للموضوع ، لن تخرج عن المسار الصحيح مهما تشعبتْ التفاصيل ، وستكون حينها مُطمئناً أنه مامن شيطان يكمنُ في التفاصيل..!
وفي نظري - أيضاً - أن الدين لايُجبرك على اختيار القاعدة العامة ، ولكنك إن رغبت في ذلك ، فهناك أمورٌ لابد من الالتزام بها ، وأُلخصها في التالي :
أولاً : الكُلية :
فالدين جاء متكاملاً ، ولايصح أن نأخذ منه جزءاً ونترك آخر ، وقد عاب الله على من فعل ذلك حين قال سبحانه :
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }
فليس من المنطق أن نُعامل أحكام الدين معاملتنا ( للسوبر ماركت ) فندفع عربة التسوق أمامنا ، ونتجول بين أرفف الأحكام ، وننتقي مايعجبنا منها ونترك مالايعجبنا..!!
ومن هذه الكلية أن نأخذ الدين بجناحيه : القرآن الكريم ، والسنة النبوية المُطهرة ، فالسنة إنما جاءت في كثير من الأحيان موضحة وشارحة ومُفصلة لما ورد في القرآن الكريم ، وأعجبُ لمن يدعي أنه ( قرأني ) ولايقبل إلا ماجاء بين دفتي المصحف فحسب ، كيف يصنع بما جاء في القرآن :{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، ولن يُقبل منه - لاعقلاً ولامنطقاً - أن يقول :
إنما المقصود بما جاء في القرآن من أوامر ونواهي فحسب، فهم بذلك يعطلون عبادات كثيرة ، والحديث في ذلك كثير وليس محله هنا ..
وهذه النقطة تقودنا إلى الأمر الثاني .
ثانياً : التخصص :
عزيزي قارئ المقال ، مهما كانت درجتك العلمية ، ( ولو شهادتك يحملونها معاك بونيت مكان ماتروح ، وقبل اسمك أحرف كثيرة ،) جرب أن تقف بجوار ( ميكانيكي ) مع احترامي لكل المهن والأعمال ، وهو يصلح ( مكينة سيارتك ) وحاول أن ( تتفلسف ) عليه ، مُستنداً على علمك ، فسيصبر عليك ، ثم ( سيصكك بمفتاح عشرة على جبهتك ) ، فلماذا نحترم التخصص في كل شيء ، إلا في الدين ، فيقول قائلٌ : هم رجالٌ ونحن رجال ..؟!!
صحيح أن هذا التخصص لايصح أن يُضفي لصاحبه مكانة مُقدسة، ولاخصوصية مبالغ فيها، ولن يكون لحمه مسموماً بالتأكيد، ولكنه يجعل له احتراماً وتقديراً خاصين اكتسبهما بعلمه وكذلك بسلوكه المتسق مع هذا العلم ، فليس في الإسلام ( كهنوت ) يُجيز لصاحبه أن يحتكر الدين ، وأن يكون رأيه الشخصي هو الدين ، وأنه يتحدث بلسان الله -عز وجل - ونيابة عنه سبحانه ، وعلى الرغم من أن ( الرأي ) هو أحد الوسائل المُعتمدة -في بعض الحالات - لاستنباط بعض أحكام الدين ، وهذا ماجعل هناك اختلاف -في بعض الأحيان - بين أصحاب المذاهب في المسألة الواحدة ، ولكن ذلك منضبط بشروط صعبة للغاية وقواعد حساسة جداً ، تضمن ابتعاد الهوى والرأي الشخصي ، والذي قد يختلط بالعادات والتقاليد ويقدمها على أنها دين.
فالتخصص مطلب هام وللغاية لمعرفة أحكام الدين ، ومن فضل الله علينا أننا في بلد عظيم ، دستوره ومنهجه الإسلام ، واعتنى حكامه كثيراً - ولايزالون - بالعلم الشرعي، وفيه علماء على درجة عالية من التخصص المبني على الدراية والمعرفة الحقيقية.
ختاماً :
الموضوع متشعب للغاية، ولكني أظنُ أني تحدثت فيه عن جزء يسير متعلق بفكرة المقال، وفي النهاية هو رأي صواب يحتمل الخطأ.

