

أحمد سليمان النجار
بقلم - أحمد سليمان النجار
كان لدى (ملياردير) ابنة واحدة ، وكانت غاية في الجمال ، وقرر أنه لن يزوجها إلا لرجل شجاع ، فهو مؤمن بأن الشجاع مأمون الجانب حتى وإن غَضب ، وفعلاً أعلن عن مسابقة من يفوز فيها يتزوج الجميلة الثرية ، فاجتمع مجموعة كبيرة من الشباب داخل قصره الفخم ، فجمعهم أمام مسبح ضخم قد ملأه بأخطر أنواع أسماك القرش الجائعة ، ووقف هو وابنته على الطرف الثاني من المسبح ، وقال للشباب :
من يعبر إلى ابنتي سباحة ، سيكون زوجها ..!!
لم يتقدم أحد ، ولكن فجأة ، قفز شاب في المسبح وظل يسبح ويسبح ، متفادياً هجمات أسماك القرش بصعوبة بالغة ، حتى خرج من الجانب الآخر ..!!
وضعتْ البنت يدها على فمها واغرورقتْ عيناها بالدموع ، ونهض الأب وركض نحوه ليحتضنه بكل فرح ، وماإن وصل إليه ، حتى تركه الشاب ، والتفت بكل غضب نحو الجهة الثانية من المسبح وصرخ قائلاً :
( مين السافل الحقير اللي دفني ؟!!! ) 😁
لو تركنا هذا الغاضب ، وتوجهنا نحو رمز التعنت ورفض التسامح في أرثنا العربي ، وهو ( النسونجي ) الشهير الزير سالم ، والذي رفض كل محاولات الصلح ولم يسامح في مقتل أخيه كُليباً ، وتسبب موقفه بحرب البسوس التي استمرت قرابة الأربعين عاماً ، وقارنا بين موقفه وبين كل مادعا إليه الإسلام ورغب فيه من العفو والغفران والتسامح وجعل فيه أجراً عظيماً للغاية ، لوجدنا أننا نعبر فوق فجوة تُشبه مسبح ( القروش ) الذي عبره الشاب ، ولكي نعبر بأمان لابد أن نصنع جسراً من القناعة الفكرية في فلسفة التسامح نفسها ، فنقول :
مشكلة معظم الفكر الحديث الذي يُقدمُ في كثيرٍ من دورات ( طلع العملاق اللي جوتك ) أن معظمها مستمد من فكر معتمد على عاطفة دينية مسيحية ، والتي فيها ( الانبطاح ) الكامل والتام ، فمن لطمك على خدك ألأيسر فأعطه خدك الأيمن ، ومن نازعك كُمَ قميصك ، فاخلع له قميصك كله ..!!!
فجاء الإسلام ليضبط هذا الانبطاح السيء، بضوابط عظيمة وراقية ورائعة للغاية ، وسأحاول جاهداً في هذا المقال أن أُسلط الضوء على بعضها كما فهمته من الفكر الإسلامي فأقول :
1-جعل الإسلام الأصل في التعامل الاجتماعي في الشرع هو ( المثل ) ، أي رد الإساءة بالإساءة
{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }
ولكن قُيدَ هذا المثل بضوابط كثيرة ، منها التيقن والعدل وعدم التجاوز ، ثم رُغِبَ في التسامح والغفران ، وجعل الله عليها أجراً عظيماً ، ولكن هذا لايمنع أن يكون الأصل هو المثل.
2-لاتتحدث عن التسامح إلا إذا كنت في موقف قوة - أو ندية على الأقل - تسمح لك بالرد والانتقام ، وهذا ماعنيته في قصة الشاب والمسبح التي افتتحت بها المقال ، فأي فضل لايُعتبرُ فضلاً مالم يكن مُجرداً من الإجبار والإكراه ، فالشاب لم يكن شجاعاً رغم فعلته العظيمة ، لأنه فعلها ( مدفوفاً ) مُضطراً ..،حتى في أشهر مواقف التسامح في أرثنا الإسلامي ، وهما موقف يوسف - عليه السلام - مع أخوته ، وموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قومه ، فلم يقل يوسف : ( لاتثريب عليكم ) ، ولم يقل - صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) - إن صحت هذه الرواية - ، إلا وهما في موقف قوة واقتدار ، فطالما أنك في موقف ضعف أو عدم قدرة على الرد ، فالخيار الذي أمامك هو الاصطلاح مع الأمر داخلياً ومحاولة تجاوزه ونسيانه ، حتى تحين لك الفرصة ، ولاتدري حينها ، عندما تكون أنت الأقوى ، قد تكون أنت الأكرم والأنبا ، وتعفو وتصفح وتسامح بطيب خاطر ..!!
3-عندما تكون في موقف القوة ، فسامح واغفر وتجاوز ، ولكن لاتسامح من مازال مستمراً في الإساءة إليك رغم علمه ، ولم يشعر بالندم على إساءته ، ومازال مُصراً على ذلك ، صحيح أن المفترض أنه بعد أن يتوقف ويندم ، أن يعتذر ، ثم يحاول إصلاح مافعل ، ولكن الاعتذار والإصلاح من الممكن تجاوزهما كرماً ونبلاً وترفعاً ، ولكن لا تتجاوز عن الاستمرارية والإصرار وعدم الندم ، لأن هذه العينة يكون التسامح هو الوقود الذي يغذي تجاوزهم وتماديهم ..!!
ولكن ذلك لايعني أن تفعل كما فعل الزير وتتخذ نفس موقفه ، بل أن ترد بقوة منضبطة ، المقصد منها الردع والتأديب ( ووضع الخُرص في الأذن ، كما نقول في جدة ) ، فإذا ماحقق ذلك الهدف المرجو ، انتقل إلى التسامح بكل مافيه من رقي ورفعة ، وعندها فعلاً ستكون ( الزير أبو مسامح ) ..!!
4-وهذه أهم نقطة في هذا المقال :
( لايكلف الله نفساً إلا وسعها )
فالتسامح والتجاوز والغفران ، ليس بالأمر السهل ولا تقبله النفس بسهولة ، فهذا القرار لكي يكون حقيقياً وصادقاً ، لابد أن يكون صادراً من الداخل للخارج ، وليس العكس ، فلابد أن تتخذ أنت القرار بكامل إرادتك واقتناعك ورضاك ، حتى لا يكون التسامح مزيفاً ، ويصبح مجرد إخفاء تحت سجادة النفس للمشاعر السلبية تجاه المسيء ، والتي لا تنفك أن تتضخم وتتضخم وتنفجر عند أقل احتكاك بسيط وغير مقصود أحياناً ، فقبل أن تسامح ، أجلس مع نفسك واتخذ القرار بصدق واقتناع تام ، وأنت مستعد لتحمل كل تبعات هذا القرار ، وأنت متيقن من قدرتك على الإقدام عليه ، صحيح أن بعض الأشخاص قد كان لهم أثراً تدميرياً عنيفاً ، طال حياتك وطال حتى حياة أعز الناس عندك ، وتسبب لك بالكثير من الألم والحسرة والوجع ، ولكن حتى هذا المخلوق إذا تحقق فيه التوقف والندم ، فافتح له ملفاً من التسامح ، وحاول أن تضغط على نفسك وأن تتناسى كل مافعل ، وإن كان ذلك صعباً وشبه مستحيل في كثير من الأحيان ..!!
ولكن سيعينك على ذلك ربط الأمر بالله وبما عنده من الأجر ، وأيضاً الفوائد الجمة للتسامح عليك وعلى نفسيتك وحياتك قبل من ستسامحه وتعفو عنه ..!!
ولكن إن كان مستمراً مُصراً غير نادم ، فلا ، ولاحُباً ولاكرامة ..!!
وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عندما سامح أهل مكة ، استثنى أربعة رجال وامرأتين ، وأمر بقتلهم ولو متعلقين بأستار الكعبة ..!!
ختاماً :
التجاوز عن إساءة الجاهلين ، ممن تلتقيهم في كل زمان وفي كل مكان ، والتغافل عن سوء أدبهم ، ولفظهم بعيداً عن حياتك ، مهارة عظيمة ،ولكن كلما كانت الإساءة من شخص قريب لك كانت أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المُهند ، وهنا يأتي التسامح ، وهو علاج نافع للمتسامح نفسه ، وكثيراً ما يكون علاجاً أيضاً للمسيء ، وفيه دفع بالتي هي أحسن ، ولكن له ضوابط وشروط حتى يكون له هذا الأثر العلاجي بإذن الله.. وسامحوني.

