

أحمد سليمان النجار
بقلم: أحمد سليمان النجار
عندما أسافرُ لمكانٍ لم أزره من قبل، فإن أكثر مايستهويني، هو الاطلاع على تراث هذا المكان وتاريخه ومايحويه من آثار وقصص مُختلفة، وذات سَفر، زرتُ منطقة من المناطق في بلدٍ ما، فطفقتُ - كعادتي - أسألُ عما فيها من معالم وآثار، وفي هذا المسار تُعرفتُ على رَجلٍ مُسنٍ غاية في اللطف، وجلستُ معه في مكان شعبي ممتع للغاية، ثم طفق يخبرني عن معالم الأماكن وبعض قصصه القديمة، وأمتعني حديثه للغاية، حتى وصل لقصة طريفة للغاية، أشار فيها إلى مكان ما، ثم قال : "في هذا المكان كان يُعقَدً سوقٌ موسمي كل عام، يتم فيه جلب مواشي كثيرة من مناطق مختلفة، وتُعرَضُ للبيع في هذا السوق، مع منتجات أخرى مختلفة يحويها السوق، وكان ( البَقَرُ) من بين المواشي التي يتم جلبها للسوق".
وكأي مكان في العالم هناك أخيار وأشرار، فكانت هناك مجموعة من اللصوص مختصون بسرقة ( البقر ) تحديداً، وفعلاً ينجحون - في كثير من الأحيان - في سرقة مجموعة من الأبقار على حين غفلة من أصحابها، ثم يأخذوها إلى ( حوش ) ليخفوها فيه، حتى ينتهي الموسم بعد فترة قد تمتد لبضعة أشهر، وبعد أن ينفض السوق، ويفقد أصحاب ( البقر ) الأمل في إيجاد مافقدوه، يغادرون السوق إلى مناطقهم وكلهم حسرة وحزن ..!!
وبعد أن يطمئن اللصوص أن الوقت أصبح مناسباً لإخراج ( البقر ) المسروق، يخرجوه من ( الحوش ) ليتصرفوا فيه، وماشدني -وللغاية - هي عبارة قالها المًسن اللطيف، ولم يُلقِ لها بالاً، فألقت في نفسي سبعين فكرة ..!!
قال المًسن في طيات حديثه : "إن اللصوص عندما كانوا يسرقون البقر ويتوجهون به إلى ( الحوش ) كانوا يدخلون ( البقر ) عبر باب صغير نسبياً، وكان ( البقر ) يعبر منه بسهولة، لأنه - وبسبب وعثاء السفر - فقد الكثير من وزنه، وأثناء فترة كمون ( البقر ) في ( الحوش ) كانت - بسبب الطعام وعدم الحركة - يكتسبون وزناً كبيراً، وكان اللصوص يعانون كثيراً عند إخراجها ثانية من نفس الباب الذي دخلت منه بسهولة في البداية، لأن الباب ضاق عليهم وهم أصبحوا أضخم بكثير"..!!
هذه العبارة اقتنصتها، وأسقطتها على تغيير اجتماعي متوقع لأي إنسان يبلغ مكانةً عالية ما أو يشغل منصباً كبيراً ما، فهو في يوم من الأيام، سيغادر هذه المكانة وسيترك هذا المنصب، أو تغادره المكانة ويتركه المنصب، فالنتيجة سيان ..!!
وهنا ألتمسُ من ( الملاقيف ) أن يمتنعوا، ومن ( طرفين الحكية ) أن يخرسوا، فلستُ ألمحُ في المقال بأن بعض المسؤولين ( بقر ) 😎، فالمكانة والمنصب لاتكتسبُ من وظيفة فقط، بل قد تكون من وضع مادي أيضاً ..
ولكن - فعلاً - فمن اعتاد على مكانة أو منصب ما، ومافيه من احترام وتقدير وتسهيلات وأمورٍ كثيرة إيجابية - قد يستحصل عليها بسببه - سيفقدها - لامحالة - كلها - أو كثيراً منها - عند تركه لهذه المكانة والمنصب، وعندها سيكون فقدانه لكل ذلك ليس بالأمر السهل، بل سيكون - في معظمه - انتزاعاً مؤلماً، كانتزاع الشوكة من الصوف المبلول . وستحدث عنده صدمة عنيفة أشدُ من صدمة الفطام التي تُصيب الرضيع عندما يُمنَعُ من ثدي أمه ..!!
كل هذه التوابع التي كان يحصل عليها بسبب المكانة والمنصب اكسبته وزناً اجتماعياً ضخماً، لم يكن نفس وزنه قبلهما، وعندما يفقدهما - المكانة والمنصب - ويضطرُ للخروج من حيزهما، إلى عالمه الطبيعي الذي كان قبلهما، فهو - بالتأكيد - سيخرج من نفس البوابة التي دخل منها، وسيعاني كثيراً بسبب عدم التناسب بين وزنه الضخم وبين حجم بوابة الخروج الصغيرة للغاية مهما بلغ اتساعها ..!!
ولتفادي هذا الألم الحتمي، فهاكم استراتيجية مضمونة :
أولاً :
التذكر الدائم أن هذه المكانة والمنصب وضع مؤقتٌ، مهما كان عالياً وموثوقاً وقوياً، وأنه مغادرهما لامحالة، هذا التذكر سيجعله على حذر دائم وتأهب عالٍ للغاية .
ثانياً :
علمه اليقيني الذكي أن كل ماسيحصل عليه من تقدير واحترام ومميزات وتسهيلات - ومسح جوخٍ أحياناً - إنما هو موجه في الأساس للثوب الاجتماعي الذي يرتديه، وليس ( لسواد عيونه ) ولشخصه، وقد عبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك تعبيراً قوياً عبقرياً،عندما عاتب بعض عماله عند أخذهم لشيء بحجة أنه قد أُهدي إليهم، فقال : (أَفَلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا) ..!!
وبهذا اليقين، لن يكتسب هو الوزن، ولن يصبح جزءاً من شخصيته، بل سيكتسبه ثوبه الاجتماعي الخارجي، والذي كل ما يحتاج إليه عندما يريد الخروج من البوابة الضيقة، أن يخلعه ويعود لوزنه الطبيعي الذي لم يُخدع ولم يغتر بكل ذلك ولم يزداد..
ثالثاً :
أن يكون - واثناء وجوده في هذه المكانة والمنصب - مثالاً على التواضع والأمانة، وأن يُحسن للجميع، وأن يبذل كل مايستطيع في خدمة الآخرين وقضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم، فهذا سيكون - بإذن الله - خير معين وأفضل صديق عند خروجه من البوابة، وسيبقى ملازماً له طوال حياته بعد البوابة..!
تنويه: حتى ( الهندوس ) قد يعانون من هذه البوابة،ولن يغير تقديسهم للبقر شيئاً 😁

