

لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
يمر مشهد العلاقات الاجتماعية بتغيرات جذرية، تتجلى في قصص يشيب لها الرأس، قصص رهيبة مفزعة موجعة حد الألم ،من الخلافات الأسرية والعائلية التي تفضي إلى قطيعة تمتد لأعوام وأعوام بين الأب وأبنائه، بين الإخوة، بين الأعمام، وبين أبناء العائلة والقبيلة الواحدة. هذه الظاهرة تستدعي تحليلاً أعمق من منظور علم الاجتماع والاتصال الاجتماعي لفهم جذورها وتداعياتها من قبل المختصين ومراكز الدراسات والبحوث المجتمعية.
عند تحليل ودراسة نماذج من هذه الحالات، يتبين أن القطيعة كبيرة بينما الأسباب في بدايتها بسيطة، ولكنها تفاقمت نتيجة تأثيرات سلبية من شياطين الإنس والجن. يكمن هنا دور أهل الفتن ووسائط التواصل الاجتماعي في تضخيم هذه المشكلات، حيث تنتشر الشائعات والمعلومات المضللة بسرعة فائقة، مما يزيد من حدة التوترات والصراعات والمشاكل.
نلاحظ أن البنية الاجتماعية قد شهدت تغييرات مهمة. سابقاً، كان للحكمة والرحمة والتسامح دورٌ أساسي في حل النزاعات. وكان المجتمع يحترم أهل الحل والعقد الذين كانوا يبادرون لاحتواء المشكلة في مهدها. هؤلاء كانوا أصحاب قول فصل ومقطع حق، ونياتهم صافية نقية، لا يجاملون ولا ينافقون ولا تأخذهم لومة لائم في قول الحق. لكن الآن، تبدو هذه القيم في تراجع ملحوظ.
إن ضعف التواصل الفعّال بين الأفراد يلعب دوراً كبيراً في تفاقم هذه المشكلات. غياب الحوار البناء وتبادل الأفكار بشكل مفتوح يؤدي إلى تراكم الضغائن وسوء الفهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج الصراعات بدلاً من حلها، من خلال تعزيز الاتصالات السطحية وغير المباشرة بين الأفراد.
يلاحظ أيضاً ضعف أو انعدام دور كبار القبيلة والعوائل في حل هذه المشكلات، مما يفاقم الوضع. سابقاً، كان لكبار القبيلة والعائلة دور رئيسي في المبادرة والتوسط وحل النزاعات، وكانت كلمتهم مسموعة ونافذة. غياب هذا الدور يؤدي إلى فقدان مرجعية مهمة في حل النزاعات وإعادة الأمور إلى نصابها.
دور المصلحين في الوقت الحاضر أصبح ضعيفاً، وتشعر أنه دور إبراء ذمة، وليس لدى البعض رغبة صادقة في إنهاء المشكلة. إذا كانت النيات صالحة وصادقة، فإن الله سيعان على الفعل ويُتمم المسعى. يجب أن يتعلم المجتمع من التجارب السابقة ويعيد تفعيل دور المصلحين النبلاء بجدية وإخلاص، ليعود التوازن الاجتماعي إلى مساره الصحيح.
الأمر لا يتوقف هنا، إذ أن هناك دور سلبي لبعض المصلحين الخبثاء الذين يساهمون في تأجيج المشاكل بدلاً من حلها. هؤلاء الأشخاص قد يستغلون النزاعات لتحقيق مصالح شخصية أو تعزيز نفوذهم في أسرهم، مما يزيد من تعقيد المشكلات ويعطل جهود المصالحة الحقيقية.
نرى ونسمع عن تأخر كبار العقلاء في القبيلة والعائلة خطوة أو خطوات وتخليهم عن دورهم، وقدموا شباباً للتصدي للمشاكل الأسرية، (وهو أمر محمود مشاركة الشباب ولكن تحت مظلة الكبار والعقلاء وحضورهم). شباباً تنقصهم الخبرة والمعرفة والحكمة وحساب العواقب. بدلاً من السعي للحل، تزيد المشاكل. ولن نغفل دور بعض النساء، وإن كن قليلات، في خلق وتأجيج الخلافات الأسرية واستسلام العقلاء لأطروحاتهن. فنحن نرى ونسمع عندما يُنصح الناس بالذهاب لعقلاء العائلة، نراهم يقولون ببرود غريب، "عندكم عيالنا، ما يتم بينكم وبينهم نحن موافقون عليه."
يجب أن يكون للمجتمع والأسر والقبيلة دوراً في تعرية وفضح ونبذ الخبثاء مشعلي الفتن، وأيضاً تعرية من لا يخضع للحق المنصف ويسعى للمماطلة والتسويف وإطالة أمد الخصومة دون وجه حق. هذين الصنفين يجب أن يحاربوا ويعمل على قتل كل وسائل تناميهم وتكاثرهم، في العائلات والقبيلة حتى يعود المجتمع إلى قيمه الأصيلة من تسامح وتعاون.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك تعزيز لقيم الحوار والتسامح في التربية الأسرية والتعليمية، بحيث تُغرس في النفوس منذ الصغر أهمية التواصل الفعّال وحل النزاعات بطرق سليمة ودية حبية، بعيداً عن العنف والحدة في الأقوال والأفعال.
يمكن أن يكون هناك أناس طيبون متسامحون، وهذا أمر وارد، لكن أن تكون رائداً مبادراً مشاركاً ومنجزاً في حل هذه المشاكل، فقلائل هم من يتصفون بهذه السمات. هؤلاء القلائل هم من يملكون القدرة على التأثير الإيجابي وجعل المجتمع في مكاناً أفضل، ومن المهم تشجيع ودعم مثل هؤلاء الأشخاص ليأخذوا دورهم الفعّال في المجتمع.
لواء م
عبدالله ثابت العرابي الحارثي

