أحمد سليمان النجار 

١٢:٢٢ ص-٠٧ ديسمبر-٢٠٢٤

الكاتب : أحمد سليمان النجار 
التاريخ: ١٢:٢٢ ص-٠٧ ديسمبر-٢٠٢٤       14520


بقلم:أحمد سليمان النجار

اختلفا في أمرٍ ما,ثم اتفقا أن يلتقيا ليتناقشا نقاشاً عقلياً هادئاً,رَكب سيارته وتوجه نحوه,وفي الطريق:بدأ يرتب الأمور في عقله,فقال :
لو قال لي:كذا,سأقول له:كذا...,وهكذا..
 وبدأ النقاش داخل عقله يحتدم,فقال:لو قال لي:أنت مخطئ,فسأقول له:بل أنت المخطئ,ثم بدأ الغضب يتسرب إلى نفسه،فقال:لو رفع صوته,فسأرفع صوتي,ولو تطاول عليَّ فلن أسكت عنه,ولو شتمني فسأشتمه..,وظل هكذا حتى استحكم منه الغضب..!!
 وماإن وصل إليه,وترجل من سيارته,وجد الرجل منتظراً وهو مبتسم, إلا أنه أمسك بتلابيبه,وهو غاضب وقال له بصوت عالٍ :
( يمين بالله اتوطا في بطنك..!! ) 😁
من أخطر الأمور التي قد تُدمر أي علاقة إنسانية,في أي بيئة-أياً كان نوعها-هو مانسميه بالتحريض ونقل الكلام,وهو ما نطلق عليه بالعامية: 
( تحريش, بلف, تعبئيه,نفخ ...) أو مايُطلق عليه عند الأشقاء في الكويت الغالية بلهجتهم المُحببة : 
( التكويك ) ومن هنا كان العنوان * فـ ( التكويك ) هو التحريض,و ( الكودنه ) هو الغبي الأحمق,أي بمعنى :
( لايحرشوك/ لايعبوك / لايبلفوك يادلخ ) ..!!!

وعلى الحقيقة أن للأمر بعد نفسي عميق للغاية,فلن أتحدث عن أهداف المُحَرِض ولا عن صدقه أو كذبه,فهذا مبحث لا نحتاجه الآن,وموقف الدين منه معروف للجميع,ولكني سأسلط الضوء على المُحَرَض,فأقول :
العقل البشري بطبيعته غير مُصممٍ للخداع , ودليل ذلك , أنك قد تُشاهد مشهداً تمثيلاً وأنت واثقٌ من أنه مجرد تمثيل , وتتفاعل معه وقد تدمع عيناك حُزناً ..!!
وتُشير كثير من الدراسات  أن البشر قلما يكتشفون الخداع , وأنه حين يُظهر الناس ثقة عالية بقدرتهم على التمييز بين الصدق والخداع، فإن معدلات دقة هذا الأمر أعلى بقليل من المنتصف(54%)*.!!
ولو أضفنا الثقة في المُحَرِض , وعدم توقع الخديعة منه,فسوف تنخفض النسبة إلى أقل من ذلك بكثير , بل قد تكون معدومة في كثير من الأحيان ..!!
كما أن عملية التمحيص والتحقيق والتدقيق , هي عمليات عقلية مُنفصلة تحتاج للجهد , ومن أجل هذا قال الله - جل في علاه - في سورة الحجرات :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
فالاستماع , لابد أن تتبعه عمليات أخرى مُختلفة , لخصها الحق -سبحانه - في قوله : فتبينوا , وفي قراءة فتثبتوا ..!!
وغياب هذه العمليات العقلية عند أي إنسان , تُعَدُ نقيصة له ومثلب من مثالبه,و دليل على نقص عقله وحماقته , ألم ترَ أن المشركين والمنافقين , والذين لم يفوتوا أي فرصة للانتقاص من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نسبوا له هذه الصفة - زوراً وبهتاناً - فقالوا : 
 { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } 
أي أنه - وكما قال كثير من المُفسرين - مُجرد مُستمعٍ يُصدقُ كل مايقال له , دون تحرٍ أو تثبت ..!!
ولكن الله نفى عنه ذلك , وأشار إلى أنه - صلى الله عليه وسلم -  أذنٌ يستمع للذي فيه خير ورحمة لكم  ..
{ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ..

والأسلم إذا تعرضت لمحاولة ( تكويك ) أن توقف هذه المحاولة وتُغلق هذا الباب , ولا تسمح للمُحَرِض أن ينقل لك أي حديث سلبي , مهما كان دافعه لذلك .., فهو - في معظم الأحوال -  دافعٌ غير شريف ..

ويُروى عن أحد الخلفاء , أنه أتاه شخصٌ ليبلغه إساءة تحدث بها عن الخليفة شخصٌ ما , فقال له الخليفة : أنت إما أن تكون صادقاً , فتكون عندها نماماً , أو أن تكون كاذباً  فتكون فاسقاً  , فختر ماتشاء , أو إن أردت أن أعفيك من ذلك فعلت , فقال الرجل : بل اعفني ، وانصرف ..

وفي رواية عن ( واحد من العيال ) زاد فيها:
أن الخليفة قال للرجل :( أجل اقلب وجهك )
فقال الرجل : ( على صفحة كم يامولاي ؟) 
فضحك الخليفة وضحك الجميع , ثم أمر الحرس فسحبوه و ( جلدوه حتى عض الأرض , يعني نقال كلام مشيناها لك , لكن تستظرف كثير كذا ...أما إذا أبيت إلا استماعاً , فبعد الاستماع قم بما يجب القيام به من التحقق والتثبت والتدقيق ومواجهة الشخص وسؤاله إن استلزم الأمر ..فواللهِ , إن كثيراً من الإشاعات والأراجيف والأكاذيب والأخبار المُشينة , التي تُنسب للأفراد والشعوب , وحتى الحكومات والدول , والتي يتلقاها كثيرٌ من ( الدونكات ) ( الدلوخ ) ويحلقون بها عالياً و يتناقلونها بينهم ويبنون عليها مواقفهم , كانت ستنتهي لو تعرضت ولو ( بنص ريال ) تثبت ..!!
أيها السادة :كثيرٌ من العلاقات تقطعت , وكثيرٌ من البيوت تدمرت , وكثيرٌ من بيئات العمل تعطلت , وكثيرٌ من الشخصيات والدول شُيطِنَت , بسبب التحريض ونقل الكلام , وإن كان المُحَرِضُ لم يمنعه دينه , ولم تردعه أخلاقه , فكن أنت من يمنعك دينه من الاستماع المُجرد دون تثبت , أو على الأقل يحكمك عقلك ومنطقك ..
وختاماً :البعض -فعلاً - يتأثر ب( تكويك ) أحدٍ ما , ولكن البعض , مثل الرجل في بداية المقال والذي ( توطى ) في بطن الرجل دون أن يعرف الرجل سبباً لذلك , فهذا لم ( يحرشه ) أحد بل هو ( ذاتي التعبئة ) وهذا باب ومدخل للشيطان , يجب أيضاً الحذر منه ..!!
* "دقة أحكام الخداع" بوند ، تشارلز