النهار
بقلم ـ عبدالمحسن محمد الحارثي
تجري الأقدار في حياة الإنسان وفق مقاييس دقيقة، لا تنطق، لكنها تُسمِع؛ ولا تُرى، لكنها تُدرَك.
ومهما ظنّ المرء أنه يمسك خيط حياته بيده، يبقى القدر هو الخيط الحقيقي الذي يجمع، ويقصّ، ويربط، ويحلّ.
قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وقال ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، كله خير…».
ومن بين هذين النورين يتجلّى للإنسان أن الأقدار تُصاغ في الخفاء بمقاييس دقيقة، وأن ما يظنه صدفة إنما هو جزء من حكمة لا تُدرك دفعة واحدة.
وقد قال أحد الحكماء: “ما يفلت من يدك لم يكن لك، وما يصل إليك لم يكن لغيرك.”
ومن يفقه مقاييس الأقدار يدرك أن ما يظنه فوضى هو في الحقيقة هندسة خفيّة، وأن ما يبدو عشوائيًا هو جزء من ميزانٍ رباني لا يختل.
وأوّل ما يكشف هذا الميزان هو البلاء؛ فالبلاء ليس صدفة، بل اختبار موزون، تُقاس شدّته بقدرة الروح على الاحتمال، ويُقدّر وقته بقدر ما تحتاجه النفس لتصحو أو ترتقي ، ولهذا قال الرومي: “الجروح منافذ يدخل منها النور.”
ولعل هذا ما جعل الحكماء يقولون: “لا يبتليك الله ليُعذبك، بل ليوقظك.” فالبلاء في ميزان القدر ليس عقوبة بقدر ما هو تصحيح مسار، وتنبيه لشيء في الداخل كان يحتاج إلى ضوء، أو إلى جرحٍ ليُشفى على نحو أفضل .
وإذا كان البلاء اختبارًا لعمق الصبر، فإن كفّ الأذى امتحانٌ لصفاء القلب. فالله لا يكشف لنا مقاييس الأقدار فقط في ما ينزل علينا، بل في ما نفعله نحن بالآخرين.
وكفّ الأذى علامة على أن الإنسان أدرك جزءًا من هذا الميزان؛ لأنه يعي أن ميزان السماء لا يقيس فقط أفعالنا الكبيرة، بل يقيس أيضًا ما نتركه من شرّ.
وفي هذا الامتناع يتجلى قول الحكماء: “من لا يزيد في خير الناس، فليُقلّل من شرّهم.” وكأن القدر يقول: إن تركت أذى، ترك الله عنك أذى أعظم.
ولو أن الإنسان رأى كل خيوط القدر بطريقة واضحة، لعلم أن كل ما ظنه خسارة كان بابًا لربحٍ لم يكن سيصل إليه من غير هذا الطريق. وهنا قال الرومي: “عندما يكسر الله شيئًا فيك، فهو يكسره ليصلحك.
” فالرحمة هي المقياس الأعلى الذي يحكم كل ما ينزل من الأقدار، حتى ما لا نفهمه ، في كل ضيق نافذة، وفي كل منع حكمة، وفي كل تأخير لطف.
فإذا كانت الخطيئة تُثقِل الميزان، فالصدقة تُخفّفه، وتُعيد للنفس توازنها، لأنها فعلٌ يجري ضد أنانية النفس. وقد قيل: “كلما خرج خير منك، خرج شرّ منك معه.
” فهي ليست فقط عملًا ثوابيًا، بل عملية تطهير داخلية تندرج تحت مقاييس الأقدار التي تربط الجزاء بالنية قبل العمل.
وكما تقوم الصدقة على العطاء، يقوم التعامل مع الناس على اللطف ، وكم قال الفلاسفة: “اللطف قوة، ومن لا يُتقن اللطف لا يُتقن العيش.”
ويتكرّس هذا المفهوم أكثر حين يتجاوز الإنسان ذاته بإماطة الأذى عن الطريق؛ ذلك الفعل الصغير الذي يعكس فهمًا دقيقًا لمقاييس الأقدار ؛ أن الخير ليس بمعظمه، بل بنيّة صاحبه ، وكأن القدر يقول: من يرفع حجرًا عن قدم عابر ؛ يرفع الله عنه همًّا من حيث لا يعلم ، فالقدر يعمل بحركة خفية تربط بين ما نفعل وما نتلقّى.
ويتقدّم هذا الفهم حين نرى أثره في صدقة الماء، أعظم الصدقات ؛ لأنها تمنح الحياة ، ومن يهب حياة لغيره ؛ يمنحه القدر حياة من نوع آخر.
ولأن مقاييس الأقدار توزن بالخير والشر، فلا بد من معرفة ما يُغضب الرب، فهو ما يدل على منطقة الخطر في هذا الميزان: الظلم، الكبر، القسوة، الفساد، المجاهرة بالمعصية. وكل هذه ليست مجرد تصرفات، بل اختلالٌ في ميزان الفطرة ، ولذلك قال ابن عطاء الله: “معصية أورثت ذلًا وانكسارًا، خير من طاعة أورثت عجبًا واستكبارًا.” فالخطر في القلب قبل الفعل، والقدر إنما يتعامل مع القلوب أولًا.
ومقابل هذا ؛ يأتي ما يحبه الله: الصدق، التواضع، الإحسان، الصفح، الستر، النية الطيبة ، وما يحبه الله ، هو ما يثبت الوزن في الميزان ؛ لأنه يقرّب الإنسان من ضوء القدر بدل ظلّه .
ثم يظهر لسان الإنسان بوصفه أحد أهم أدوات القدر؛ فالاتزان في الأقوال ليس أدبًا فقط، بل فطنة ، فالبلاءُ موكلٌ بالمنطق ، وكلمة تُقال قد تغيّر قدرًا، وقد تفتح باب رزق أو باب حزن، وقد تُصلح علاقات أو تُهدمها ، ولذلك قال سقراط: “تكلّم حتى أراك.” فميزان القول يدخل مباشرة في ميزان القدر.
ويبقى الدعاء ذروة الفهم لهذا الميزان؛ لأنه يربط الأرض بالسماء، والحاجة بالإجابة، والرجاء باليقين.
ليس الدعاء خروجًا على القدر، بل دخولًا في أعماقه ، فالله كتب القدر، وكتب أن الدعاء يغيّر القدر ، وهذا أحد أعظم أسرار الميزان : أن ما يرفعه الإنسان إلى السماء ؛ يعود إليه بشكل آخر، في الوقت المناسب، بالطريقة التي تليق برحمة الله.
وهكذا ؛ حين يجمع الإنسان بين الصبر على البلاء، وكفّ الأذى، والرحمة، والصدقة، واللطف، وإماطة الأذى، والإحسان، والحذر مما يغضب الله، والسعي لما يحبه، وضبط اللسان، والإخلاص في العمل، والدعاء ؛ فإنه يبني علاقة ناضجة مع الأقدار.
ومن وصل إلى هذا الفهم، عاش في سلامٍ عميق، لأنه لم يعد يقاوم القدر، بل يرافقه، ويقرأ رسائله، ويعرف أن خلف كل حدثٍ حكمة، وخلف كل حكمة رحمة، وخلف كل رحمة يدًا إلهية لا تُخطئ.