النهار السعودية

١٢ نوفمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار السعودية
التاريخ: ١٢ نوفمبر-٢٠٢٥       4730

بقلم - د. غالب محمد طه

في مقال سابق بعنوان من خانة الميلاد تبدأ الغفلة، تحدثنا عن خطورة إدخال تواريخ ميلاد غير صحيحة عند تسجيل الأطفال في التطبيقات والمنصات الرقمية، وكيف يمكن لمعلومة بسيطة أن تفتح الباب لوصول محتوى لا يناسب أعمارهم. واليوم، نكمل ذات الطريق، لكن من زاوية أخرى: كيف تتعامل الخوارزميات مع الطفولة؟ وهل يمكن أن تفهم معنى البراءة؟
حين نفتح تطبيقًا أو منصة رقمية، ونجد المحتوى مصممًا "خصيصًا لنا"، فذلك ليس سحرًا، بل لأن هذه المنصات تراقب كل ما نفعله: ما نبحث عنه، ما نشاهده، وما نضغط عليه. والخوارزمية في جوهرها ليست أكثر من آلية مبرمجة تختار لنا المحتوى بناءً على ما فعلناه سابقًا. إنها أداة تعمل كما صُمّمت، دون أن تفهم السياق الإنساني أو تفرّق بين طفل وبالغ.
وما لا ننتبه له هو أن هذه الخوارزميات تعتمد كليًا على البيانات التي نُدخلها، وعلى رأسها تاريخ الميلاد. فإذا كتب الطفل تاريخًا يوحي بأنه أكبر من عمره الحقيقي، تبدأ المنصة في عرض محتوى يُناسب هذا العمر المزعوم: مقاطع مليئة بالعنف، تحديات خطرة، محتويات إيحائية، وإعلانات لا تراعي سنّه. كل هذا يمرّ دون أن يتوقف أحد ليسأل: هل يليق بطفل؟ هل هو آمن؟
وهنا تكمن الخطورة. فالطفل لا يملك الأدوات النفسية أو العقلية للتعامل مع هذا المحتوى. والأسوأ أن المنصة لا تتوقف، بل تستمر في عرض المزيد مما يشبهه، في دائرة لا تنتهي، دون أن يراجعها أحد أو يوقفها.
ولعلنا نتذكر تلك الحادثة التي أثارت الرأي العام العربي، حين أقدم طفل في الثانية عشرة من عمره على قتل صديقه وتقطيع جثته، في واقعة صادمة قيل إنها مستوحاة من مسلسل أجنبي شاهده عبر الإنترنت. شاهدتُ ذلك المسلسل بنفسي، وفيه كل العناصر التي يمكن أن تُشكّل عقلية مضطربة: عنف مبرر، وقتل "أخلاقي"، وتطهير للمجتمع من الفاسدين. لكن الطفل لا يرى السياق، ولا يفرّق بين الخيال والواقع، بل يظن أن ما يُعرض عليه هو الطبيعي، خاصة حين يظهر في صفحة "الاقتراحات" دون أن يبحث عنه.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 77% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا يستخدمون الإنترنت بانتظام، وهو ما يفتح أمامهم فرصًا غير مسبوقة للتعلم والتواصل، لكنه في الوقت ذاته يجعلهم عرضة لمخاطر متزايدة مثل التنمر الإلكتروني، والمحتوى العنيف، والتحريض على إيذاء النفس. كما أفاد أكثر من ثلث الشباب في 30 دولة بتعرضهم للتنمر الإلكتروني، في حين يشعر 80% من الأطفال في 25 دولة بخطر التعرض للاعتداء أو الاستغلال عبر الإنترنت — أرقام صادمة تكشف حجم التهديد الذي يواجه الطفولة في الفضاء الرقمي.
قد يبدو من السهل أن نلوم الخوارزمية، لكنها في الحقيقة لا تُلام؛ الخلل يبدأ من البيانات التي نُدخلها نحن. الخوارزمية لا تملك وعيًا ولا ضميرًا؛ هي تتعامل مع ما نضعه أمامها، فتعمل كما صُمّمت، دون أن تفكر: لمن أقدّم هذا؟ وهل يناسب طفلاً أم بالغًا؟
وهنا تلتقي التقنية بالتربية، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فما تفعله الخوارزمية هو انعكاس لما نسمح به نحن من بيانات وسلوكيات. ولهذا نقول: حماية الطفل لا تبدأ من منع التطبيق، بل من توجيه الاستخدام، ومساعدته في إدخال البيانات الصحيحة، ومرافقة رحلته الرقمية خطوة بخطوة.
إذا كانت المنصات لا تفرّق بين طفل وبالغ، فإن مسؤوليتنا تبدأ من ضبط البيانات التي تعتمد عليها. وأبسط خطوة يمكن أن نتخذها هي مراجعة إعدادات الحسابات التي يستخدمها أطفالنا، والتأكد من أن الحساب مُسجّل كحساب طفل، لتُفعّل أدوات الحماية تلقائيًا. ثم يأتي دور البيئة الرقمية نفسها. لا نترك الطفل يتجوّل في فضاء مفتوح دون حدود، بل نختار له تطبيقات تناسب عمره وقيمه، تُقدّم محتوى مناسبًا، وتمنحنا فرصة أن نكون قريبين منه دون أن نُقصيه عن عالمه.
لكن الأدوات وحدها لا تكفي. فالحماية الحقيقية تبدأ من الحوار. أن نتحدث مع أطفالنا عمّا يشاهدونه، لا بوصفنا رقباء، بل شركاء. نجلس معهم، نشاركهم، نكتشف ما يفكرون فيه وما يثير فضولهم، ثم نسألهم بلطف: "ما أكثر فيديو أعجبك؟"، "هل شاهدت شيئًا أزعجك؟". نفتح لهم بابًا ليعبّروا دون خوف أو تردد. فكلما شعر الطفل بالأمان في الحديث، قلّ احتمال أن يختبئ خلف الشاشة.
ولا يمكن أن نغفل دور المدرسة والمؤسسات التربوية في هذا الجانب، فهي شريك أساسي في تنمية الوعي الرقمي، وتعليم الأطفال كيف يتعاملون مع ما يرونه على الإنترنت بعين ناقدة ومسؤولة. وقد أكدت اليونسكو في مؤتمر الإنترنت لبناء الثقة 2023 ضرورة التزام المنصات بمسؤوليتها تجاه الأطفال، وتعزيز تعليمهم كيف يفهمون ويحلّلون ما يشاهدونه.
فحين تتكامل جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع، يمكن أن نصنع جيلاً رقميًا أكثر أمانًا ونضجًا، يفهم التقنية دون أن يقع أسيرًا لها.
وبالله التوفيق.