النهار

١١ نوفمبر-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ١١ نوفمبر-٢٠٢٥       6270

بقلم - د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي 

في مجتمعاتنا ظاهرة تستحق التأمل والتمحيص، هي ما يمكن أن يُسمّى بـالإسقاط المتعمد ، حيث نصنع رموزنا بأيدينا ثم نعمل على هدمهم متى ما بدا منهم الخطأ أو ما لا يوافق أهواءنا، وكأننا نريد من البشر أن يكونوا ملائكة لا يخطئون، أو معصومين لا يزلّون. نبني لهم مقاماً من التقديس، ثم نغضب لأنهم لم يصمدوا في مرتبةٍ لم يُخلقوا لها. إنها آلية نفسية واجتماعية مضطربة، تُعبّر عن خلل في نظرتنا إلى الإنسان وطبيعة الكمال والنقص فيه.

لقد جُبل الإنسان على النقص والضعف، كما قال الله تعالى: ﴿وخُلق الإنسان ضعيفاً﴾ [النساء: 28]، وفي الحديث: ﴿كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون﴾. فليس في الوجود بشرٌ يخلو من عيبٍ أو تقصير، وإن الله عز وجل لم يجعل العصمة إلا لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام . وحين نمنح أحدًا من الناس – لعِلمه أو مكانته أو عطائه – هالة من العصمة، نكون قد ظلمناه قبل أن نُكرّمه، لأننا حمّلناه ما لا يطيق، ورفعناه إلى مقامٍ لا يليق إلا بمن اصطفاهم الله وظلمنا أنفسنا .

وحين يقع الخطأ منه – وهو أمر طبيعي في سنن البشر – نتحول فجأة إلى خصوم، نلغي فضله، وننكر عطاؤه، ونُسقط كل ما قدّم من خير، وكأن الزلة الواحدة ألغت كل معروفٍ سابق، وكأن السيئة الواحدة نسفت رصيد السنين من الصواب. وهذه النظرة القاسية ليست من العدل الذي أمر الله به، إذ قال تعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ [المائدة: 8]. فالعدل لا يكون إلا بالنظر إلى الصورة الكاملة للإنسان، والحكم للغالب من سيرته لا للنادر من زلاته، لأن النادر لا يُنقض به الأصل، ولا يُهدم به البناء.

ومن تمام الإنصاف أن نعلم أن النقد لا يعني الإهانة، وأن التقويم لا يلغي التقدير، وأن الاعتراف بالخطأ لا ينسف الاعتراف بالفضل. فكم من عالمٍ جليلٍ وقع في اجتهادٍ خاطئٍ، ولم يُسقطه خطؤه من أعين المنصفين، لأنهم أدركوا أن ميزان التقييم يقوم على المحصلة العامة لا على الاستثناء العابر. قال الإمام الشافعي رحمه الله: “رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب”، فكم في هذا القول من نور العدالة الفكرية والخلق الرفيع الذي يُبقي مساحةً للاختلاف دون أن يُسقط الاحترام.

إن النقد حين يُبنى على النية الصالحة والمنهج العلمي والبصيرة العادلة، يكون عبادةً في ميزان الله، لأنه وسيلة للإصلاح لا أداة للهدم. أما حين يتحول إلى شماتةٍ وتشفي، أو إلى وسيلة لتصفية الحسابات، فإنه يُصبح ظلماً مضاعفاً، إذ يجمع بين بطر المعروف وجحود الفضل. وقد قال النبي ﷺ: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»، فكيف بمن ينكر إحسانهم ويسعى إلى طمس أثرهم؟

ومن الوجهة العقلية، فإن الموازنة بين الحسنات والسيئات هي سلوك الناضجين، لأن الحكم في العقل يكون للأغلب لا للنادر، وللجوهر لا للعارض. والعاقل من لا يُبطل فضائل المرء بزلاته، ولا يُغفل زلاته إعجاباً بفضله، بل ينظر إلى الصورة الكلية في ضوء قوله تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره﴾ [الزلزلة: 7-8]. فالله سبحانه لا يُبطل الحسنة بالسيئة إلا إذا غلبت، ولا يُهلك الناس بزلةٍ ما لم تكن هي سمتهم وغالب أمرهم، وهكذا يجب أن يكون ميزاننا في الحكم على الناس.

ومن الوجهة النفسية، فإن الميل إلى تحطيم الرموز نابع من نزعةٍ داخليةٍ تسعى إلى تبرئة الذات عبر إسقاط العيب على الغير، وكأن النفس لا تطمئن إلا إذا رأت من هو أسوأ منها. أما النفس السوية فهي التي تنقد بإنصاف، وتحب بوعي، وتغفر بقدر، وتدرك أن الناس درجات، وأن الخطأ لا يمحو الخير، وأن من علّمنا حرفاً أو خدم مجتمعاً أو قدّم نفعاً، يستحق منا التقدير ولو أخطأ، لأن الاعتراف بالفضل ليس تبريراً للزلّة، بل وفاءٌ للحقّ.

لقد علّمنا الإسلام أن نكون أهل إنصافٍ لا أهل انفعال، فقال تعالى: ﴿ولا تنسوا الفضل بينكم﴾ [البقرة: 237]، وهي آيةٌ جامعة لو تأملناها لكفتنا في ضبط هذه الموازين المختلة. فحتى مع من بيننا وبينه خصومة، يأمرنا الله ألا ننسى فضله السابق، فكيف بمن عاش بيننا معلّماً أو خادماً أو مصلحاً؟!

إن الأمم التي تنضج في نقدها تحفظ رموزها، وتُبقي لذوي الفضل مكانهم وإن زلّوا، لأنها تعلم أن البناء الإنساني لا يقوم على العصمة بل على الاستقامة العامة. أما الأمم التي تقدّس ثم تحطّم، فإنها تهدم ثقتها بنفسها قبل أن تهدم رموزها، وتعيش في دوامة من الإفراط والتفريط، لا تعرف كيف تُنصف ولا متى تغفر.

فلنكن منصفين، نحاكم بالعدل، ونزن بميزان الحكمة، فنُقدّر الفضل ونقبل النقد، ونُفرّق بين الغالب والنادر، وبين الزلّة والخيانة، وبين النقص الطبيعي والفساد المقصود. فالنقد الواعي لا يُلغي الاحترام، بل يُثبته في أرقى صوره، لأن من أحبّك بصدقٍ نصحك بإنصافٍ ولم يُهِنك بجهل.

وبهذا نرتقي إلى مستوىٍ من الوعي يليق بأمةٍ جعل الله ميزانها قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس﴾ [البقرة: 143]، أمة تعرف الاعتدال في الفكر، والإنصاف في الحكم، وتُكرم الإنسان بقدر عطائه، وتحاسبه بقدر خطئه، وتعلم أن الكمال لله وحده، وأن الحكم للغالب لا للنادر، وللنور لا للظل العابر.