النهار
بقلم - لواء م عبدالله ثابت العرابي الحارثي
في عصر تتسارع فيه المعلومات وتتداخل المنصات الرقمية، أصبح فن التضليل أحد الأساليب المتقنة لتوجيه الرأي العام. الأكثر استخدامًا اليوم هو الاجتزاء، الذي يقصّ كلام المتحدث من سياقه الزمني والمكاني، ويحوّله إلى رأي زائف، فتنتشر فكرة مبتورة على أنها الحقيقة الكاملة، بينما العقل الجماعي يتعرض للإلغاء في موجة الترندات.
لم يعد الاجتزاء فعلًا عابرًا يقوم به متابع متسرّع، بل أصبح أداة استراتيجية يمارسها بعض الحسابات والمواقع الباحثة عن الانتشار والشهرة. يُقتطع جزء من نص أو مقطع فيديو أو صورة، ثم يُقدَّم بشكل يخلق انطباعًا مغايرًا لما قصد المتحدث، فينتج رأي زائف ينتشر بسرعة بين الجمهور، ويصبح التحقق من الحقيقة أمرًا ثانويًا.
هذا السلوك لم يعد محصورًا في صُنّاع الإثارة، بل شمل بعض المحللين والنخب، ما يعطي للتزييف طابعًا من المصداقية، ويجعل الجمهور يقع في فخ تصديق ما لا يقوله أحد فعليًا. وغابت ثقافة العودة إلى المصدر الأصلي، وحلّت محلها ‘ثقافة القطيع’، حيث يتفاعل الناس مع الترندات ويعيدون نشر المحتوى دون تثبّت، ما يفاقم انتشار الرأي الزائف ويحوّل المنصات الرقمية إلى ساحة للجدل المشوّه.
هناك أيضًا من يمارس الاجتزاء عمدًا كأداة للانتشار، يضع بين السطور ما يعلم أنه سيثير الناس، ليجعلهم يقتطعون كلامه فيتداولونه، فينتشر هو بما أراد لا بما قال. إنها مهارة جديدة في فن الإيحاء يمارسها البعض بذكاء، ويقع فيها الجمهور بحسن نية. وخلال الأيام الماضية شاهدنا نموذجين واضحين من هذا النوع؛ أحدهما رأى أن “الشطة والميرندا” أهم عند أهل الميت من فقدهم، والآخر يرى أن فقد درجتين في الامتحان أشد أثرًا عليه من فقد والديه.
لقد أصبح من الضروري أن يدرك المجتمع تأثير هذه الممارسات على وعيه، وأن نعيد الاعتبار للبحث عن الحقيقة، والعودة إلى النصوص الكاملة، والتثبت قبل التفاعل، حتى لا يصبح العقل تابعًا لما يُقصّ ويُنتج على الترندات، بدلًا من أن يكون فاعلاً مدركًا.
الاجتزاء ليس مجرد خطأ في الفهم، بل تشويه متعمد للوعي العام. وإذا لم يتداركه المجتمع بالوعي والنقد والمسؤولية، فسيصبح الفكر ضحية فن التضليل، وستستمر الترندات في تحويل الحقائق إلى رأي زائف، وإلغاء العقل الجماعي من الحساب. فلنكن جمهورًا واعيًا، يتحقق قبل أن يشارك، ويقرأ النص كاملًا قبل أن يُكوّن رأيه.