

النهار
بقلم: د.صالح السلمي
لم تكن المرأة في بادية الحجاز مجرد ظلّ للرجل أو تابع له، بل كانت القلب النابض للأسرة، والعمود الفقري للمجتمع ؛ ففي حياة قاسية قوامها الترحال وشظف العيش، برزت المرأة كقوة منتجة، ومربية، وحافظة للتراث، بل ومؤسسة حقيقية للبيت والحياة.
وإذا كان الرجل يُعرَف بالسيف والبعير، فإن المرأة عُرفت بقدرتها على صناعة البيت، ونسج الخيمة، وضمان استمرار الحياة في قلب الصحراء.
أولًا: صانعة البيت من السدو
بيت الشعر الذي يُعد رمز البادية ومأوى القبيلة، إنما كان من نسج أنامل النساء؛ فهن اللواتي يجززن صوف الأغنام وشعر الماعز، ثم ينظفنه ويغزلنه خيوطًا، ليحوّلن تلك الخيوط على منسج بسيط إلى ألواح طويلة تُسمى السدو ، ومن هذه الألواح يقام بيت الشعر ، الذي لا يعتبر مجرد مأوى، بل هو عنوان الكرم، وساحة الضيافة، ورمز الكيان الاجتماعي.
إن المرأة هنا لم تكن فقط "ربة بيت" ، بل صانعة البيت بكل معاني الكلمة؛ صنعت جدرانه من خيوط، ورسمت عليه زخارف هندسية تحمل هويتها وذوقها، ثم نصبته بيديها، وحفظته لتبقى الأسرة في ستر وأمان.
ثانيًا: المشاركة الاقتصادية
في حين كان الرجل مشغولًا بالرحلة والترحال والغزو، تولّت المرأة مهام اقتصادية مباشرة: فهي التي تجمع الحطب والعشب، وتدير شؤون البيت في غياب الرجل، وتشارك في رعي الماشية، بل وتبتكر وسائل تدبيرية تحفظ للأسرة قوتها؛ وهكذا كانت المرأة منتِجة بامتياز، بينما اكتفى الرجل غالبًا بأدوار موسمية كالحروب والأسفار.
ثالثًا: الحافظة للتراث والقيم
لم يكن دورها ماديًا فحسب، بل كانت المستودع الثقافي للعادات والأهازيج والأشعار؛ ففي مجالس النساء حُفظت الأهازيج الشعبية، وتوارثت قصص البطولة، وتشكّلت القيم الأخلاقية التي صاغت وجدان البادية، لقد كانت الأم أول معلمة، تنقل القيم، وتؤسس الناشئة على ما حفظته من روايات وآداب.
رابعًا: التفوق على الرجل
إذا كان الرجل يُفاخر بشجاعته في ميادين الحرب، فإن المرأة فاخرَت بقدرتها على أن تبني من لا شيء كل شيء: من شعر الماعز بيتًا، ومن النار حطبًا، ومن الفطرة دواءً، ومن قلبها مدرسةً للأجيال.
إنها تفوقت على الرجل لأنها لم تكن موسمية الأدوار، بل حملت أعباء الحياة كلها في السلم والحرب، في الغياب والحضور. فحيثما ذهب الرجل ظلّ يحتاج إلى ما صنعته يداها: البيت الذي يأويه، القهوة التي تُقدَّم لضيوفه، والنسل الذي يخلّد اسمه.
خامسًا: المرأة اليوم استمرار للتفوق
وإذا انتقلنا من الماضي إلى الحاضر، نجد أن المرأة السعودية والعربية عمومًا واصلت هذا التفوق؛ فهي اليوم ناجحة في التعليم والعمل، مخلصة في عطائها، متقنة في مهاراتها، وأثبتت في ميادين شتى أنها من ناحية الإنتاج والجدية والالتزام أفضل من كثير من الرجال؛ لقد دخلت ميدان الطب والتعليم والهندسة والإدارة والقيادة، ولم تفقد في ذلك روحها الأصيلة التي عرفها المجتمع منذ البادية.
هكذا تظهر المرأة في بادية الحجاز لا بوصفها نصف المجتمع، بل عماده كله؛ وهي اليوم تبرهن أن ذلك التفوق لم يكن عارضًا ولا ظرفًا، بل هو طاقة متأصلة في شخصيتها؛ فهي صانعة البيت بالأمس، وصانعة النجاح اليوم؛ وهي في كل زمان، العمود الذي قامت عليه حضارة البادية، والركيزة التي يقوم عليها حاضر الأمة ومستقبلها.

