

النهار
بقلم د. أماني عبد الوهاب
حين تلتقي الخرائط القديمة التي حملت طرق الحرير، بالخرائط الحديثة المرسومة بمداد السياسات والاتفاقيات، يتضح أن الرياض لم تعد مجرد محطة في مسار التجارة، بل أصبحت عقدة استراتيجية يتقاطع عندها الاقتصاد بالقانون، والتاريخ بالمستقبل.
فمبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها الصين لم تعد مشروعًا اقتصاديًا صرفًا، بل تحوّلت إلى منظومة كبرى تحمل في طياتها تحولات قانونية وتشريعية عميقة، ومع عبور هذه المبادرة عبر الأراضي السعودية يكتسب النقاش بعدًا مغايرًا، فالمملكة العربية السعودية التي تمتلك خبرة متراكمة في تنظيم الاستثمارات والطاقة والبنية التحتية، تجد نفسها أمام اختبار جديد يتعلق بكيفية صياغة أطر قانونية تستوعب تعقيدات المبادرة دون أن تفقد سيادتها أو هويتها التشريعية.
ليست الاستثمارات وحدها ما يحتاج إلى تشريع، بل حتى حركة البيانات، وحقوق الملكية الفكرية وآليات تسوية المنازعات العابرة للحدود، فالمشاريع الكبرى التي تربط الموانئ بالطرق، والمصانع بالمستهلكين، لن تُبنى على الأسمنت والحديد وحدهما، بل على قواعد قانونية مرنة تحمي الحقوق وتوازن المصالح وتؤمّن استدامة التعاون.
وهنا يبرز سؤال المستقبل: "كيف ستعيد الرياض صياغة أدواتها النظامية لتكون قادرة على احتضان المبادرة، لا كضيفة عابرة، بل كشريك مؤسس؟، وكيف ستوفق بين المعايير الدولية التي تفرضها المبادرة، والخصوصية التشريعية التي تميز النظام السعودي؟".
في قلب هذه الشراكة، لا تبدو الرياض في موقع المتلقي بقدر ما تتأهب لتكون صانعة إيقاع جديد فإعادة صياغة أدواتها النظامية ليست مسألة ترف تشريعي، بل ضرورة تمليها طبيعة المبادرة التي تتجاوز كونها مشروعًا اقتصاديًا إلى كونها بنية تحتية قانونية عابرة للحدود.
ولعل قوة النظام السعودي تكمن في مرونته المستمدة من مبدأ الشريعة كمرجعية عليا، ومن ثمّ قدرته على استيعاب المستجدات عبر سن تشريعات خاصة أو تعديلات نوعية في الأنظمة ذات الصلة كأنظمة الاستثمار، والتمويل، وحماية الملكية الفكرية، وتسوية المنازعات التجارية.
أما عن التوفيق بين المعايير الدولية التي تفرضها المبادرة والخصوصية التشريعية السعودية، فإن الطريق لا يكون عبر الذوبان في القواعد العابرة، بل من خلال صياغة "توافق ذكي" يوازن بين متطلبات الانفتاح على الشركاء الدوليين وبين الحفاظ على سيادة النظام الوطني، وهذا التوافق قد يظهر في تبني اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف تصاغ بروح المبادرة، دون المساس بجوهر السياسات الداخلية، أو في إنشاء أطر تحكيم دولي خاصة بالرياض تضمن الثقة للمستثمر الأجنبي، وتحافظ على أصالة المرجعية الوطنية.
بهذا المعنى، فإن الرياض لن تدخل المبادرة كضيفة، بل ستغدو شريكًا مؤسسًا يُعيد تعريف موقعه عبر القانون، ويبرهن أن حماية الهوية التشريعية لا تتعارض مع الانفتاح، بل قد تكون شرطًا من شروط استدامته.
وهكذا، يبدو "الحزام والطريق" وهو يمرّ عبر الرياض كأنّه خيط من نور يُعيد رسم خرائط العالم، لا بخطوط جغرافية جامدة، بل بوشائج قانونية واقتصادية تنسج مستقبلًا جديدًا، ليس مجرد مشروع استثماري أو اتفاقيات تُدوَّن على الورق، بل هو حوار حضاري عابر للأزمنة، تلتقي فيه صرامة القانون بجموح الطموح الإنساني، وفي صمت هذه اللحظة التاريخية، تتجلّى الرياض لا كمحطة على الطريق فحسب، بل كجسر يربط بين الشرق والشرق الأبعد، بين حلم يتخطى الحدود، وواقع يبحث عن صياغة عادلة تليق بالإنسان في زمن تتسارع فيه القوانين كما تتسارع القوافل على طرق التجارة القديمة.
معلومات عن الكاتبة: مستشارة قانونية معنية بتحليل البعد التشريعي للتنمية في قضايا الاستثمار والأنظمة السعودية

