

النهار
بقلم: نانسي اللقيس
لبنان ليس مجرّد دولة مأزومة تبحث عن تسوية آنية، بل هو كيان يقف عند تخوم الحقيقة التاريخية: هل يظلّ فكرة قائمة على التوازن، أم يسقط في هاوية الانتحار الذاتي؟ إنّ ما يُسمّى بالأزمة اللبنانية لم يعد قابلاً للتبسيط بوصفه خلافاً داخلياً حول السلطة أو السلاح، بل هو أزمة معنى ووجود؛ إذ ما قيمة الدولة إذا خرج سلاحها من يدها، وما جدوى السيادة إن استُبدلت بالارتهان لوهم "الانتصار" الذي لا يتحقق إلا في الخيال؟ هنا تتدخل الإرادة الأميركية لا كقوة غريبة، بل كقوة تفرض على لبنان مرآةً يرى فيها هشاشته.
فالمشروع الأميركي، عبر "ورقة برّاك" وما تفرّع عنها، ليس محاولةً لإدارة الوقت، بل هو مسعى لإعادة تعريف الكيان اللبناني ضمن شبكة من المعادلات: مع إسرائيل في الجنوب، مع سوريا في الشرق، ومع الداخل الذي لا يستطيع أن يستمرّ إلّا إذا أعاد تأسيس سلطته على قاعدة احتكار الشرعية والعنف المشروع.
غير أنّ كل مشروع سياسي يبقى ناقصاً إذا اقتصر على ميزان القوة من الخارج، لأنّ الدولة لا تعيش بالضغط وحده، بل تحتاج إلى جذرٍ يمنحها شرعية في فضائها الطبيعي، وهنا يتبدّى الدور السعودي، لا من باب التبرّع ولا من باب الرعاية التقليدية، بل كحضور يتجاوز الواقعي إلى المبدئي: السعودية كفكرة توازن، فمنذ عقود، كانت المملكة أشبه بميزان يحفظ للكيان اللبناني توازنه الدقيق، تارة عبر اتفاق الطائف، وطوراً عبر مواقف عربية جامعة منعت لبنان من الذوبان في المحاور.
واليوم، في ظلّ رؤية استراتيجية يقودها ولي العهد، تعود السعودية لتقدّم نفسها لا كلاعب ظرفي، بل كشرط أنطولوجي لبقاء لبنان: فالتوازن الذي تملكه في عمقها العربي ـ الإسلامي، وامتدادها الاقتصادي والسياسي، هو ما يجعلها وحدها قادرة على تحويل الخطة الأميركية من ورق إلى واقع، ومن إدارة أزمة إلى صيرورة إنقاذ.
إنّ الانتحار السياسي الذي يلوّح به "حزب الله" ليس سوى محاولة لتعويض سقوط "الردع" أمام إسرائيل بفوضى داخلية لا تنجب سوى الهزيمة المزدوجة، أما الرهان على إيران فليس سوى استسلام لزمنٍ مضى؛ فإيران المثقلة بأزماتها لم تعد تملك إلا وعوداً خُلّبية، فيما هي منشغلة بملفّها النووي ومصير نظامها، بهذا المعنى، يصبح لبنان أمام معادلة ثلاثية لا بديل عنها: خطة أميركية ترسم المسار، ميزان سعودي يمنح الشرعية والجذر، وقرار لبناني يتحرّر من الوهم.
الفلسفة السياسية تعلّمنا أنّ الدولة لا تقوم على القوة وحدها، ولا على الشرعية وحدها، بل على التوازن بين الاثنين، التوازن هنا ليس شعاراً بل شرط وجود؛ وإذا غاب، سقط الكيان في الفوضى، والسؤال اليوم: هل يجرؤ لبنان، دولةً و"حزباً"، على الاعتراف بأنّ زمن الأوهام انتهى، وأنّ المستقبل ليس في فائض السلاح ولا في الغلبة المذهبية، بل في ميزان جديد يلتقي فيه العقل الأميركي مع الرؤية السعودية ومع الإرادة اللبنانية، في لحظة قد تكون الفرصة الأخيرة قبل أن ينهار الهيكل على من فيه؟.

