الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ١٢:٥٩ ص-٢٥ أغسطس-٢٠٢٥       8855

لواء م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي

في زمنٍ تسارعت فيه عجلات الراحة وتنوّعت وسائل الرفاه، تغيّرت ملامح التربية وتبدّلت موازين الاعتماد على الذات. وبدأت الأسر تطرح أسئلة موجعة: هل قدّمنا لأبنائنا أكثر مما ينبغي؟ وهل أصبحت الرفاهية التي وفرناها لهم حاجزًا بينهم وبين صلابة الحياة؟

لم تعد المظاهر وحدها عنوان الترف، بل صار الترف نمطًا متغلغلًا في تفاصيل الحياة اليومية: تعليم خاص، هاتف فاخر، سيارة قبل الرخصة، وحتى الرعاية تمتد أحيانًا إلى البحث عن وظيفة وسكن وزواج. وكأن واجب الأب لا ينتهي عند التربية، بل يشمل تقديم حياة كاملة على طبق من الراحة.

ولا يعني ذلك أننا ضد الدعم والمساندة، بل هو أمر محمود، لكن الخطر يكمن حين يتحوّل العطاء إلى اتكالية مطلقة، ويصبح الاعتماد على الوالدين قاعدة لا تُناقش.

المقلق أن بعض الأبناء لم يعودوا يرون في هذا العطاء فضلًا، بل واجبًا ثابتًا. وإذا لم تُلبَّ هذه التوقعات، تنهال عبارات مثل: “لماذا أنجبتني إذا لم توفّر لي حياة كريمة؟”، وكأن الكرامة أصبحت مرادفة للراحة، لا للقدرة على المواجهة.

الرفاهية ليست أزمة بحد ذاتها، لكنها تتحوّل إلى عبء حين تُختزل التربية في العطاء دون التمكين، وفي التوفير دون التوجيه. هنا تنقلب النعمة إلى نقمة، حين تُنتج أبناءً هشّين، يفتقرون إلى مهارات المبادرة، عاجزين عن اتخاذ القرار، ومستسلمين أمام أول عقبة.

الأب الذي يشتري كل شيء لابنه قد يحرمه من أعظم شيء: القدرة على الصمود. والأبناء الذين لم يتحملوا مسؤوليات صغيرة في طفولتهم، غالبًا ما يعجزون عن مواجهة تحديات الحياة لاحقًا. بعض الآباء، بدافع العاطفة، يمنعون أبناءهم من الاحتكاك بخشونة الحياة، وهم بذلك يجرّدونهم من المناعة النفسية التي تعينهم على المدى البعيد.

التحدي اليوم لا يكمن في حجم الإنفاق، بل في بناء جيل قادر على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية؛ جيل لا يختبئ خلف والده عند أول أزمة، ولا ينتظر أن تُفرش له الطرقات كما اعتاد.

علينا إعادة تعريف “الحياة الكريمة”، لا كواقع خالٍ من الصعوبات، بل كحياة مليئة بالقيم، محفوفة بالتحديات، ومشبعة بروح المبادرة. عندها فقط نستطيع أن نقول بثقة: نعم، نحن أنجبنا أبناءً يستحقون هذا العالم، لا يخشونه.