النهار
بقلم: نانسي اللقيس
يكشف المشهد الإقليمي في هذه اللحظة من التاريخ عن انتقال عميق في موازين القوة وصياغة الرؤى، انتقال لم يعد يُقاس بالقدرة العسكرية أو الاقتصادية وحدها، بل بامتلاك الجرأة على إنتاج مشروع سياسي قادر على الاستمرار.
وفي قلب هذا التحول، تبرز السعودية بوصفها مركز الثقل الجديد، إذ غدت معيارًا تقاس على أساسه جدّية أي مبادرة إقليمية أو دولية.
في لبنان، الذي أنهكته عقود من الأزمات والوصايات والتجاذبات، تبدو معادلة الرياض واضحة، إمّا دولة مؤسسات أو لا دولة، فالمملكة لا تنجرّ إلى التفاصيل العبثية، بل تضع أمام اللبنانيين خيارًا جوهريًا، بناء دولة حديثة قائمة على حكم القانون، أو البقاء في فراغ الميليشيات والتناقضات.
ومن خلال ربطها الدعم بالإصلاح، أعادت تعريف معنى المساعدة، إذ لم يعد الأمر ضخ أموال في اقتصاد منهك، بل إعادة تكوين الفضاء السياسي على قاعدة الشرعية الوطنية.
وفي سوريا، يبرز الحضور السعودي كمسعى لإعادة تكوين الدولة نفسها، لا كمجرد مبادرة إنسانية أو اقتصادية، فقد أثبتت التجربة أن سقوط الأنظمة لا يعني ولادة البدائل، وأن أي تسوية تغفل عن مفهوم الدولة محكوم عليها بالانهيار.
ومن هنا تطرح الرياض رؤيتها، أن إعادة الإعمار فعل سياسي وفلسفي يهدف إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يعيد سوريا إلى محيطها العربي على أساس السيادة والوحدة، لا على أنقاض الصراعات.
أما في ما يتصل بإسرائيل، فقد اختارت المملكة موقعًا بالغ الدقة، رفض التطبيع المجاني، والتمسك بأن العدالة أساس أي سلام. ففلسطين بالنسبة إلى السعودية ليست بندًا تفاوضيًا عابرًا، بل معيارًا لصدقية أي مشروع إقليمي.
وفي عالم تسيطر عليه البراغماتية البحتة، تضع الرياض بوصلة أخلاقية تُعيد الاعتبار للقيم في قلب السياسة، وتؤكد أن غياب العدالة يُبطل أي استقرار مهما بدا متماسكًا.
إن ما يميز السعودية اليوم أنها لا تتحرك من موقع ردّ الفعل، بل من رؤية ترى السياسة فنًّا لصياغة المستقبل.
وفي قلب هذه الرؤية يقف الأمير محمد بن سلمان، لا كزعيم تقليدي، بل كصانع مشروع حضاري يُعيد للسياسة معناها الأخلاقي، ويمنح المنطقة فرصة نادرة لكتابة فصل جديد من تاريخها.