

محمد السويعي
بقلم: محمد السويعي
لم تعد الألعاب الإلكترونية مجرد تسلية بريئة كما كان يعتقد الكثيرون، بل تحولت في بعض صورها إلى تهديد اجتماعي وأمني وتربوي متنامٍ. فالطفل الذي يفترض أن يجد في اللعب متعة وتعلّمًا، قد يصبح ضحية لمحتوى عنيف يطبع العدوانية في سلوكه ويغذي داخله بذور الكراهية ويجعله أكثر تقبلاً لاستخدام العنف كوسيلة لحل النزاعات. ومع تزايد استخدام الأطفال لهذه الألعاب، برزت شواهد على دفع بعضهم إلى ممارسات متهورة تصل إلى أحياناً إلى إيذاء النفس، فضلًا عن تعرضهم لابتزاز منظم وتجنيد عبر قنوات رقمية تستغل هشاشتهم.
الخطورة لا تكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في بعض الألعاب التي تمزج بين العنف المفرط والمشاهد الدموية، وبين غرف الدردشة المفتوحة التي تسمح للغرباء بالتواصل المباشر مع الأطفال، إلى جانب تصميم يعتمد على الإدمان من خلال المكافآت اللحظية وصناديق الحظ وتحديات اللعب المستمر. هذا المزيج يجعل الطفل أكثر عرضة للتأثر والانقياد، ويمنح المتربصين بالأطفال منفذًا مباشرًا إلى عقولهم عبر شاشة صغيرة.
'
لقد أثبتت الدراسات أن بعض هذه الألعاب تُستغل في التجنيد والابتزاز، حيث تتيح غرف الدردشة المفتوحة للغرباء التواصل مع القُصّر تحت أسماء مستعارة لبدء علاقات مزيفة تنتهي بطلب صور أو معلومات شخصية تُستغل لاحقًا في الابتزاز. كما تُمرر بعض الألعاب خطاب الكراهية عبر شعارات وأيقونات متطرفة تجعل الطفل يتقبّل لغة العداء وكأنها جزء من اللعبة، بينما تدرّبه المهام التنافسية القاسية على العدوانية اللفظية والجسدية باعتبارها وسيلة للترقي والتفوق. الأخطر أن الخوادم غير الرسمية تتيح نشر محتويات محظورة وتبادل روابط مشبوهة بعيدًا عن الرقابة، فيما تشجع آليات الشراء والمكافآت اللحظية على الاندفاعية وضعف القدرة على ضبط النفس، ما يسهل انقياد الطفل وراء أوامر أو معاملات مشبوهة.
الأثر النفسي لهذه الألعاب يظهر جليًا في تبلّد المشاعر تجاه مشاهد العنف، إذ يفقد الطفل حساسيته تجاه الألم فيراه اعتياديًا. كما يُعاد تشكيل دائرة المتعة والإنجاز لديه بحيث ترتبط بالفوز من خلال الأذى اللفظي أو الجسدي، وهو ما يغذي الدافعية العدوانية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تمتد الأضرار إلى القلق والعزلة واضطرابات النوم بسبب الجلسات الطويلة التي تربط الهوية بالإنجاز الافتراضي، فينعزل الطفل عن أسرته ويعيش تقلبات مزاجية. ومع قابلية الأطفال للإيحاء والاندفاع، خاصة قبل سن الثالثة عشرة، يصبحون أكثر عرضة لتقليد السلوكيات العدائية وتبني تكتيكات السيطرة التي يتعلمونها داخل اللعبة.
الكثير من الأسر تكتشف آثار هذه الألعاب من خلال مؤشرات إنذار واضحة، مثل تغيّرات مفاجئة في النوم وفقدان شهية الطعام، أو عزلة الطفل الدائمة خلف الأبواب المغلقة وسماعات الرأس، أو نوبات الغضب عند محاولة الحد من وقت اللعب. كما أن التحويلات المالية غير المبررة، والمطالبة المتكررة بالشحن، وحذف سجلات الدردشة، وظهور رسائل من حسابات مجهولة كلها إشارات خطرة تستوجب التدخل الفوري. الأخطر هو تعبير الطفل عن مشاعر تشاؤمية أو ميول لإيذاء نفسه، وهنا تصبح الأولوية القصوى هي سلامته، ما يتطلب حوارًا مباشرًا وطلب المساعدة من مختصين تربويين.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب تحركًا جماعيًا يبدأ بقرارات حازمة من الجهات المختصة لحجب الألعاب المسيئة عبر قوائم سوداء تُحدّث باستمرار، ومنع دخول أي لعبة موجهة للقُصّر إلا بترخيص يضمن وجود تصنيف عمري واضح وأدوات رقابة أبوية فعّالة وآليات إبلاغ واستجابة سريعة. كما يجب مساءلة الشركات عبر تقارير شفافية دورية وإلزامها بفرق إشراف ناطقة بالعربية، وربط خصائص الدردشة والشراء بالتحقق العمري، وإدراج التربية الرقمية في المناهج الدراسية إلى جانب توفير خط ساخن موحد للإبلاغ عن الانتهاكات. ومن الضروري أيضًا تنظيم اقتصاديات اللعب عبر حظر صناديق الحظ والمشتريات القسرية للأطفال وفرض حدود زمنية ومالية واضحة.
أما دور الأسرة والمجتمع فلا يقل أهمية عن التشريعات. على الأهل أن يضعوا قائمة بالألعاب المسموح بها بدلًا من ترك الخيار مفتوحًا، وأن يضعوا الأجهزة في المساحات المشتركة لتقليل العزلة، وأن يعطلوا الدردشات العامة ويسمحوا بالتواصل فقط مع الأصدقاء الموثوقين. الحوار المباشر مع الطفل حول مخاطر الكراهية والدعاية والابتزاز يصنع لديه مناعة نفسية رقمية، والمتابعة المالية الدقيقة تمنع الانزلاق في استغلال اقتصادي. كما أن تنظيم ساعات النوم والحرص على الأنشطة الواقعية مثل الرياضة واللعب مع الأقران يعيد التوازن لحياة الطفل، ويجب تعريفه بوسائل الإبلاغ عن أي محاولة استغلال مع وضع كلمة أمان يلجأ إليها فور شعوره بالخطر.
لسنا ضد الألعاب الإلكترونية في حد ذاتها، بل ضد السيئ منها، ذاك الذي يطبع العنف في نفوس الأطفال ويشرعن لغة الكراهية ويستدرجهم إلى غرف مظلمة للتلاعب والابتزاز. لقد نضجت الأدلة والمشاهدات وأصبح الخطر واضحًا، وحان الوقت لاتخاذ قرار شجاع يجمع بين الحظر الصارم والبدائل الآمنة، مع تفعيل دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في التربية الرقمية. إن حماية الطفولة من منتجات رقمية مسيئة واجبة بل مسؤولية أخلاقية وقانونية ومجتمعية، فالأطفال الذين نحميهم اليوم هم المواطنون الذين سيحملون الوطن غدًا، ومن واجبنا أن نغلق أبواب الشرور الرقمية قبل أن تفتح على مصراعيها.

