

النهار
بقلم: د.أماني عبدالوهاب
لم يعد الحديث عن الاقتصاد الأخضر ترفًا فكريًا أو مجرد شعار بيئي؛ بل تحوّل إلى أحد أعمدة التحول الاقتصادي في السعودية، ضمن رؤية 2030 التي وضعت الطاقة المتجددة والمشاريع البيئية في صميم خططها. وفي ظل هذا التحول، يبرز سؤال محوري: كيف يصوغ القانون الإطار الذي يحمي البيئة ويضمن للمستثمر عائدًا آمنًا ومستدامًا؟
الاقتصاد الأخضر كأولوية استراتيجية
السعودية أطلقت مشروعات ضخمة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، إلى جانب مبادرات مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، ما جعل الاستثمار البيئي ليس خيارًا جانبيًا بل ميدانًا تنافس فيه الدولة عالميًا. هذا الزخم يفرض بناء منظومة قانونية متطورة تواكب متطلبات المستثمرين المحليين والأجانب.
خلف كل توربين رياح ولوح شمسي، يقف سؤال قانوني: ما الإطار الذي يضمن أن الاستثمار في الطاقة النظيفة ليس مغامرة محفوفة بالمخاطر؟"
أولاً: البعد النظامي (التشريعات واللوائح):
فالمملكة العربية السعودية وضعت أطرًا متقدمة عبر نظام الكهرباء الجديد، ولوائح هيئة تنظيم المياه والكهرباء، إلى جانب التزامات وزارة الطاقة ورؤية 2030، هذه التشريعات لا تقتصر على تنظيم التراخيص والملكية، بل تمتد لتوفير ضمانات ضد المخاطر مثل: عقود شراء الطاقة طويلة الأمد (PPA) التي تحمي المستثمر من تقلبات السوق، وآليات تسوية المنازعات والتحكيم التجاري، مما يضمن أن النزاعات لا تعرقل استمرارية المشاريع.
ثانياً :البعد المالي (تحييد المخاطر):
فالحماية لا تكتمل بالتشريع وحده؛ إذ تدخلت الدولة بآليات تمويلية مثل: الصناديق السيادية (صندوق الاستثمارات العامة، صندوق التنمية الصناعية)، والشراكات بين القطاعين العام والخاص التي توزع المخاطر، وكذلك تحفيز الاستثمارات عبر الإعفاءات الضريبية ورسوم الأراضي.
ثالثاً : البعد الحقوقي والسيادي:
يبقى الأهم هو أن الإطار القانوني يوازن بين جذب الاستثمارات الأجنبية وبين حماية السيادة الوطنية على موارد الطاقة، فالقانون يمنع الاحتكار ويحافظ على حقوق الأجيال القادمة، وفي نفس الوقت، يمنح المستثمر ضمانات ضد التأميم أو التغييرات التشريعية المفاجئة.
لذا فإن الإطار القانوني السعودي يسعى لتحويل الاستثمار في الطاقة النظيفة من "مغامرة" إلى "فرصة آمنة"، وذلك عبر تشريعات واضحة، وأدوات مالية داعمة، وضمانات سيادية متوازنة، بهذا المعنى القانون هنا ليس مجرد حارس للنظام، بل شريك في صناعة المستقبل الأخضر.
العدالة المناخية: البُعد الإنساني للقانون
القانون لا يقتصر على حماية رأس المال، بل يمد مظلته إلى المجتمعات المحلية المتأثرة بالمشاريع، هنا يظهر مفهوم "العدالة المناخية"، فمشروع ضخم قد يجلب أرباحًا، لكنه قد يقتطع من حياة قرية صغيرة تعيش على أرضه، هنا يتدخل القانون ليقول: التنمية ليست على حساب الإنسان، وهذا يعني ألا تتحمل فئات ضعيفة تكاليف التنمية الخضراء، حيث أن التشريعات السعودية في مجال البيئة بدأت تتجه نحو ضمان أن التحول الأخضر لا يكون على حساب الإنسان البسيط، وهذا يضفي بعدًا أخلاقيًا على السياسات القانونية.
حماية المستثمر وآليات فض النزاعات
الاستثمار الأجنبي في الطاقة النظيفة يطرح تساؤلات حول: ما الذي يحدث إذا خالفت الدولة أو الشركة التزاماتها البيئية أو الاستثمارية؟
الإجابة تتجه نحو التحكيم البيئي الدولي، وهو حقل قانوني صاعد يربط بين قواعد الاستثمار وحماية البيئة. هنا يمكن أن يكون للسعودية دور ريادي في وضع نموذج إقليمي للتحكيم في النزاعات الخضراء.
التشريعات المستقبلية ومعايير ESG
من المتوقع أن تشهد المملكة العربية السعودية طفرة في سن تشريعات مرتبطة بـ التمويل الأخضر وتبني معايير ESG (البيئية والاجتماعية والحوكمة)، هذه المعايير لم تعد مجرد "موضة" غربية، بل صارت شرطًا من شروط المؤسسات المالية العالمية لتمويل المشاريع، ما يجعل إدماجها في التشريعات المحلية ضرورة اقتصادية وقانونية.
موازنة دقيقة: ربح مستدام وبيئة آمنة
التحدي الأكبر هو رسم خط دقيق بين تعظيم العائد الاقتصادي وبين حماية البيئة وحقوق الإنسان. فالقانون هنا يلعب دور الحكم العادل الذي يضمن أن التنمية الخضراء لا تتحول إلى استنزاف جديد وأن المستثمر لا يواجه مخاطر غموض تشريعي أو تقلب في السياسات.
في النهاية، ما يميّز المشهد السعودي اليوم أنّه لا ينحصر في بناء أبراج من زجاج أو إطلاق مشاريع خضراء من ورق، بل هو انخراط جاد في معركة عالمية عنوانها: من يمتلك مفاتيح الغد؟.

