

النهار
بقلم - د. طارق بن حزام
ليس الشعر عند العرب زينة كلام، بل هو روح تنبض بالحياة ومرآة تعكس أعماق الإنسان. كان الشاعر في قومه حكيماً، يزن الأمور بميزان الفطرة والعقل، حتى صارت أبياته تُتداول كما تُتداول التجارب، وتُحفظ كما تُحفظ الوصايا.
هؤلاء العرب قالوا كل شيء: عن الطبع الذي لا يتغير مهما تأنّق في الأدب: “إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ فلا أدبٌ يفيد ولا أديب”. وعن الإنسان الذي يرضى عنه الكرام فلا يضير غضب اللئام: “إذا رضيتْ عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها”. وعلّمونا أن العدو لا يُؤمن جانبه وإن لبس ثوب السلام: “إن العدو وإن أبدى مسالمةً إذا رأى منك يوماً غرّة وثبا”.
قالوا في الشجاعة ما يُشعل العزائم: “إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركباً فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها”. وقالوا في العزيمة ما يفضح التردد: “إذا كنتَ ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ فإن فسادَ الرأي أن تترددوا”. حتى الاجتهاد قد ينقلب وبالاً إن لم يسنده توفيق الله: “إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأولُ ما يجني عليه اجتهادُه”.
وفي هجاء الزيف كانوا سيوفاً قاطعة: يسخرون من المتبجّح الذي لا يثبت في الشدائد: “أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ”. ويهزأون بالجاهل الذي يتصدر القوم: “أعمى يقود بصيراً لا أبا لكمُ قد ضلّ من كانت العميان تهديه”. وكم نبّهوا إلى أن المظهر خادع: “ترى الرجلَ النحيل فتزدريهِ وفي أثوابه أسدٌ حصور”.
وحين تحدّثوا عن الدنيا، تحدّثوا بلسان من خبر تقلّبها: “رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلما صرتُ في غيره بكيتُ عليه”. وذكّرونا بأن الزمان كاشف للأسرار: “ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود”. وأن ما يذهب اليوم سيعود غداً بوجه آخر: “فإن يكُ صدرُ هذا اليومِ ولى فإن غداً لناظره قريب”.
أما الكبرياء والكرامة فكانت عندهم حياة أو موت: “ما حكَّ جلدك مثلُ ظفرك فتولَّ أنت جميعَ أمرِك”. ورفضوا طلب العون من غير أهله: “المستجيرُ بعمروٍ عند كربته كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنار”. وأبوا أن يهنوا: “من يهن يسهل الهوانُ عليه مالجرحٍ بميتٍ إيلام”.
لقد علّمونا أن العقل نور، لكنه عذاب أحياناً: “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاء منعَّم”. وأن الأعداء كثيرون في الرخاء، قليلون في الشدائد: “فما أكثرُ الأصحابِ حين تعدُّهم ولكنهم في النائبات قليل”. وأن الزمان يُفسد المقاييس حتى يرى الإنسان القبيح جميلاً: “يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن”.
كل هذه الأبيات ليست بقايا من زمن غابر، بل هي رسائل مفتوحة لنا اليوم نحن الذين نعيش في زمن تبدّل فيه كل شيء إلا طبيعة الإنسان.
لقد تكلم العرب قديماً بما لم نستطع قوله اليوم: فضحوا الجبن، وذمّوا التردد، وأعلوا شأن الكرامة، وعلّمونا أن الإنسان إذا هان على نفسه فلن تعزّه الدنيا كلها: “من يهن يسهل الهوانُ عليه مالجرحٍ بميتٍ إيلام”
إن الشعر العربي ليس ترفاً لغوياً، بل وعي صافٍ بالحياة، ومرايا معلّقة على جدران التاريخ تكشف لنا وجوهنا الحقيقية كلما ظننا أننا تغيرنا

