الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ١٢:١٢ ص-٢٩ مايو-٢٠٢٥       25685

بقلم: اللواء م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي
تحرص المملكة العربية السعودية، وعلى امتداد عقود، على تسخير أحدث الإمكانات، وتبنّي كل ما هو جديد ومتطور، لتيسير أداء مناسك  الحج  على ضيوف الرحمن بكل يسر وسهولة، إيمانًا راسخًا بأن خدمة الحجاج والمعتمرين والزوار ليست مهمة موسمية عابرة، بل أمانة مستدامة تُدار بمنهج التطوير المتجدد، وتنطلق برؤية لا تكتفي بالمألوف، بل تعانق المستقبل بأدواته وتقنياته.

وفي ظل التحولات التقنية المتسارعة التي يشهدها العالم، كانت المملكة في طليعة الدول التي لم تكتفِ بمواكبة هذا التقدم، بل طوّعته لخدمة أشرف المقاصد: تيسير رحلة  الحج  والعمرة، وبث الطمأنينة في نفوس ضيوف الرحمن.

لم يعد الأمر محصورًا في تطوير البنية التحتية أو توفير الخدمات الأساسية، بل تجاوزه إلى بناء نموذج متكامل للحج الذكي، يستند إلى الذكاء الاصطناعي، والتحكم الرقمي، والتخطيط الاستباقي، وخدمات رقمية متقدمة جعلت من المملكة مرجعًا عالميًا في إدارة الحشود.

منذ اللحظة الأولى لوصول الحاج إلى المنافذ، تتجلى بصمة التقنية السعودية في كل زاوية من المشاعر المقدسة؛ من الطائرات المسيّرة (الدرونز) إلى الكاميرات الذكية، والبوابات الإلكترونية التي تعمل بالمسح الآلي، والأساور الرقمية التي تُعرّف بهوية الحاج وموقعه وحالته الصحية، مرورًا بالخرائط التفاعلية، والشاشات متعددة اللغات، وصولًا إلى التطبيقات الحكومية الذكية التي تتيح الوصول إلى الخدمات بضغطة زر، فيجد الحاج دعمًا رقميًا في كل خطوة، يضمن له السهولة والطمأنينة.

ويمتد هذا التكامل التقني إلى غرف التحكم الذكية، حيث يتم تحليل الصور، وقراءة أنماط الحركة، ومراقبة سلوك الحشود، وإصدار قرارات فورية مدعومة بخوارزميات دقيقة.

لم تعد إدارة الحشود قائمة على الاجتهاد البشري وحده، بل أصبحت تكاملًا محكمًا بين الذكاء البشري والاصطناعي، لتنظيم تفاصيل دقيقة كحركة رمي الجمرات، وتوزيع الحجاج في المخيمات، وتوقيت الصعود إلى عرفات، والنفرة إلى مزدلفة، في مشهد دقيق أشبه بأوركسترا متناغمة.

وما يميز التجربة السعودية في إدارة موسم  الحج  أنها لا تعتمد على الترويج اللفظي، بل تترك للواقع أن ينطق بإنجازاتها.

فالحج لم يعد تنظيمًا تقليديًا، بل أصبح تجربة رقمية متكاملة تُدار وتُرعى بإمكانات الدولة، وحرصها العميق على أن يحيا ضيف الرحمن رحلة إيمانية استثنائية.

في قلب هذه المنظومة، يبرز مركز موحد للذكاء الاصطناعي مخصص للحج، إلى جانب غرف عمليات رقمية تعمل على مدار الساعة، وتُشرف على مشاعر تحولت إلى بيئة ذكية، وتتضافر هذه الجهود مع تطبيقات مثل “نسك” و”اعتمرنا”، التي تختصر الإجراءات، وتُسهِّل التجربة، بالإضافة إلى مبادرة “طريق مكة” التي أطلقتها وزارة الداخلية، لإنهاء الإجراءات في بلدان الحجاج، من الجوازات إلى الجمارك والفرز الصحي، بما يضمن رحلة سلسة تبدأ بالترحيب وتنتهي بالطمأنينة.

ويُسجَّل للدولة جهودها المتكاملة بقيادة وزارة الداخلية، ورئاسة أمن الدولة، ووزارة  الحج  والعمرة، ووزارة الصحة، ورئاسة شؤون الحرمين، وسائر الجهات، في إعادة تعريف مفاهيم “الخدمة” و”السلامة” و”التيسير” في الحج، من خلال حلول مبتكرة تجمع بين الإنسان والتقنية.

لم تعد المملكة تُقدَّم اليوم كمدرسة في إدارة الحشود فقط، بل أصبحت رائدة في هندسة الحشود ورقمنتها، حيث تعمل منظومة رقمية دقيقة، تعتمد على خوارزميات لا تهدأ، ترصد وتحلل وتُصدر التوجيهات في لحظتها، مدعومة بثقافة “الوعي اللحظي”، وعلوم “الهندسة السلوكية للمشاة”، لترتقي بالتجربة إلى مستوى لم يُشهد له مثيل.

ليست التقنية هدفًا في ذاتها خلال موسم الحج، بل وسيلة مقدسة تُسخّر لخدمة من قصدوا بيت الله ملبين، والمملكة، بما تملكه من رؤية وخبرة وبنية تحتية رقمية متقدمة، تمضي بثبات نحو جعل تجربة  الحج  فائقة الجودة، عالية الأمان، عميقة في معناها، مشرِّفة في أدائها.

فمن الذكاء الاصطناعي… إلى النقاء الإيماني.. "هذا هو  الحج  في المملكة اليوم: حجٌ يُدار بالعقل، ويُضاء بالقلب".