

لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
بقلم: لواء. م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي
منذ فجر التاريخ، لم تكن المجتمعات البشرية تتقبل الجديد بسهولة، فالتحفظ، بل وأحيانًا العداء، تجاه كل ما هو حديث كان دومًا جزءًا من استجابة النفس البشرية لما يهدد المألوف والمستقر.
سمعنا عن من تحفظ على لبس الكبك، وركوب الدراجة، واستخدام المذياع، ثم جاء من خشي السيارة، والراديو، والتلفاز، والحاسوب… وكلها اليوم أدوات عادية بل ضرورية في حياة الإنسان المعاصر.
ولم يكن هذا الرفض محصورًا في العامة وحدهم، بل حتى بعض المختصين – ممن يعرفون بـ الحرس القديم – أبدوا مقاومة لأي تحول كبير، خاصة إذا جاء من خارج النمط التقليدي المعرفي الذي اعتادوه.
واليوم، نجد أنفسنا أمام منتج معرفي ثوري جديد، تطلقه Google تحت مسمى View 3، يُبشّر بتحول جذري في صناعة المحتوى الإعلامي، من السينما والمسرح إلى الفيديوهات التوثيقية والإبداعية.
منتج لن يُلغِي دور الإنسان، بل سيعيد تعريفه. إذ يكفي لأي شخص أن يملك فكرة، حتى يتولى الذكاء الاصطناعي كتابة السيناريو، واقتراح مواقع التصوير، واختيار الممثلين، وإدارة العملية الإنتاجية بالكامل.
إن ما تحدث عنه بعض المختصين حول هذا المنتج – من سلبيات متوقعة ومخاوف محتملة – لا يمكن تجاهله، بل هو محل تقدير واهتمام، فكل تقنية كبرى تأتي حاملة معها بذور البناء وأشباح الهدم. وقد يُساء استخدام أي منتج معرفي، سواء عن قصد أو جهل، ولكن أن يتحول هذا الخوف إلى موقف عدمي أو رفض تام، فهو ما يستحق التوقف عنده.
فالمنتج الجديد View 3 ليس مجرد أداة إنتاج فني أو إعلامي، بل يمثل نقلة نوعية ستغير من شكل العلاقة بين الفرد والإعلام.
ويشبّهه بعض الخبراء بالتحول الجذري الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي عندما زاحمت الإعلام التقليدي — من صحافة وإذاعة وتلفزيون — وفتحت الباب أمام أي فرد، طفلًا كان أو شابًا، ليصنع محتواه الخاص، ويؤثر في ملايين المتابعين دون أن يمر عبر بوابات المؤسسات الكبرى أو الرقابات المركزية.
وهذه ليست مبالغة، فما أحدثته تلك الوسائل من “ديمقراطية إعلامية” سيأخذ الآن خطوة أعمق مع أدوات مثل View 3، التي تُمكّن أي فرد يمتلك فكرة لفيلم وثائقي أو معرفي أو ثقافي من تحويلها إلى سيناريو مكتمل، ثم إنتاجه بتقنيات عالية، دون المرور بمراحل الإنتاج التقليدية، أو الحاجة لرأس مال ضخم أو طاقم عمل متخصص.
وهنا يكمن جوهر القضية: كيف نوازن بين الوعي بالمخاطر والانفتاح على الفرص؟ كيف نُعدّ أنفسنا وأجيالنا للتعامل مع هذه التقنيات لا كأعداء لها، ولا كمنبهرين بها إلى حد الغفلة، بل كمشاركين فاعلين في تشكيل أخلاقياتها وتوجيه مساراتها.
إننا لا نُنكر أن بعض الأصوات المعارضة تأتي بدافع الحذر المشروع، لكنها أحيانًا تقع في فخ التهويل أو الإقصاء، فتسهم دون قصد في إبطاء التقدم أو تشويه صورة منتج لم يُمنح بعد فرصة التجربة والتقويم، والمفارقة أن بعض هؤلاء المعارضين هم من أهل التخصص أنفسهم، ممن يتوقع منهم احتضان التجديد وتوجيهه لا معاداته.
نحن بحاجة إلى خطاب متزن، يعترف بمخاوف المراحل الانتقالية، دون أن يقع في فخ الجمود، فكل منتج جديد هو فرصة لتجديد أدواتنا، وتطوير قدراتنا، وتوسيع أفقنا، شريطة أن نمتلك الوعي الكافي لصناعة توازننا الخاص بين الحذر والانفتاح.

