

النهار
بقلم: حسناء خالد الزهراني
اعتاد آباؤنا في الماضي أن يحذروا من كل من بدا عليه الانعزال أو الابتعاد عن الناس والتفاعل مع الحياة. كانوا يرون في الانعزال شيئًا غير مريح، وربما مريبًا، ودائمًا ما أوصوا أبناءهم بالحذر ممن يعيشون خارج الدائرة الاجتماعية، حتى دون أن يوضحوا السبب. هذا الموقف الشعبي لم يكن مبنيًا على علم، لكنه كان مستندًا إلى فطرة فَطِنت أن الوحدة المفرطة ليست طبيعية، وأن من يبتعد طويلًا عن الناس، قد يتغيّر عليه شيء في الطباع أو القلب.
ولم يكن هذا التصور بعيدًا عن التوجيه النبوي، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.”
هذا الحديث لا يدعو فقط إلى مخالطة الناس، بل يُثني على الصبر على أذاهم كمرتبة أعلى في الإيمان، مما يدل على أن التفاعل الاجتماعي، برغم ما فيه من تعب، هو طريق للنضج والفضل.
ومع تطور العلم، جاء تأكيد علمي ملموس لهذا المعنى. ففي دراسة سابقة من جامعة شيكاغو، استخدم الباحثون التصوير الدماغي (fMRI) لدراسة تأثير الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية على نشاط الدماغ.
وكانت النتائج مذهلة: "تبين أن الأشخاص الذين يعيشون في وحدة مزمنة يُظهر دماغهم نشاطًا أقل في المناطق المرتبطة بالمكافأة والتعاطف. فعند عرض صور لأشخاص يمرون بمواقف مفرحة أو حزينة، أظهر الأشخاص المنعزلون تفاعلًا ضعيفًا جدًا. وكأن مشاعرهم أصبحت أقل حساسية، وأبعد عن الاهتمام بمعاناة أو فرح الآخرين".
المنطقة المسؤولة عن الإحساس بالمكافأة (المخطط البطني)، التي تتفاعل مع مشاعر الحب والفرح الاجتماعي، كانت خافتة لدى هؤلاء. والمنطقة التي تساعد الإنسان على “تفهُّم” الآخر أو الشعور به (الوصلة الجدارية الصدغية) كانت كذلك أقل نشاطًا.
وهذا يعني أن العزلة الممتدة لا تترك أثرها فقط على نمط حياة الإنسان، بل تمس أعماق وجدانه، فتعطّل استجاباته العاطفية وتُضعف قدرته على التفاعل الإنساني.
وهنا يتضح عمق الفهم النبوي والإنساني والاجتماعي الذي سبق العلم: أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وأن البعد عن الناس لا يحمي فقط من الأذى، بل قد يُنتج أذى أكبر في النفس والعاطفة.

