النهار

٢١ ابريل-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٢١ ابريل-٢٠٢٥       15785

بقلم: لواء. م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي

في بضع آيات موجزةٍ وحكيمة، ترسم سورة المطفّفين لنا خريطةً لعمليةٍ لا تقتصر على نقص الغرامات في كفّة الميزان، بل تمتدّ كآفةٍ تنخر الضمائر. هناك، لا يُسأل الشخص عن وزن سلعة فحسب، بل عن مكياله النفسيّ حين يطالب بحقه ويغيّب واجبه، فيقفز فوق قواعِد العدالة إذا كان في غير مصلحته، ويثور عليها حين تغاضى لصالحه. بهذا، يصبح التطفيف أكثر من عادةٍ تجارية، بل ثقافةٍ تزيّنها الأنانية بذريعة الحقوق، وتُخفي خلف أقنعة المطالبة تطلعاتٍ لا تعرف حدودًا. هذه المقدّمة دعوةٌ لاستكشاف عالمٍ من الموازين المزدوجة، حيث لا يتحرّك السلوك خارج سوقٍ عميقٍ في داخلنا. 

 

ثم نراهم يصطنعون مظلوميتهم لاسترداد حقوقهم مضاعفةً، فإذا دُعُوا لأداء واجباتهم تواروا خلف الأعذار وكأنّ ما طالبوا به بالأمس لم يكن. الموظف المستعجل للترقية يبرر تقاعسه دون كلل، والطالب الذي لا يحتمل نقصان درجته يثور عند أول ملاحظة، والجَار الذي يشكو ضجيج الآخرين يعمي عن مصدر الإزعاج في بيته، والتاجر الرافض للغش يبالغ في تزيين بضاعته بعبارات لا تستحقها. إنهم حرفيون في فنّ الاستيفاء ومتمرسون في فنّ الإنكار. 

 

والمجتمع حين يسكت عن هذه الأشكال من السلوك، يسهم دون أن يشعر في تطبيعها. وحين تتحول الحقوق إلى صراخ، والواجبات إلى فضل، تتشوه العلاقة بين الأفراد، ويغيب ميزان العدل. يصبح الصوت الأعلى لمن يُتقن لعبة “خذ ولا تعطي”، ويُزاح الصادق المتزن لأنه لا يعرف أن يطالب، ولا يرغب أن يخاصم. تغيب القيم لا لأن الشر يعم، بل لأن الخير يصمت.

 

لا يورد القرآن وصفًا إلا لصياغة حكمةٍ جليلة، ومن ذلك قرن وصف المطففين بذكر الأبرار، إذ لا تكتمل الصورة إلا بالمقارنة. فالأبرار لا يكتفون بأداء الحقوق، بل يتجاوزونها نحو البر: يمنحون بلا تذكير، ويعطون بلا رقابة، ويُوفون بالعهد إن لم يُطالَبوا. ويعفون ويصفحون ،هؤلاء ليسوا مجرد نقيضٍ للمطففين، بل هم الضمان الوحيد لبقاء العلاقات الإنسانية بمستوىٍ يُحتمل. فلولاه لتحول المجتمع إلى صخبٍ من الشكاوى ودوائر المحاكمات، تسكنها النزعات الانتهازية والصخب المفرط. الأبرار لا يحدثون ضجيجًا، لكنهم يضمنون توازنًا. 

 

وليس سرًا أن المطفف حين يُترك بلا محاسبة، يتضخم. يبدأ بإنكار بسيط، ثم يرتقي إلى استغلال، ثم يتلبّس دور الضحية. وإذا منحته مكانًا، طالب بمكان غيره. وإذا سكتّ عن نقصه، أنكر فضلك. وإذا منحته ثقتك، استخدمها ضدك. لهذا لا يُعالج التطفيف بالموعظة وحدها، بل بالموقف. لا تُرد الحقوق بالتوسل، بل بالتربية على وعي الحق، وعلى احترام الذات، وعلى أن التطفيف في أي صورة من صوره ليس شطارة، بل خيانة للمروءة.

 

من هنا، لا بد من تفكيك هذه الظاهرة في سلوكياتنا اليومية، لا على مستوى الخطاب العام فقط، بل في التربية المنزلية، في لغة الإعلام، في خطاب الواعظ، في مناهج التعليم. لا بد أن يُربى الجيل على أن المطالبة بالحق لا تعني التجاوز على الآخرين، وأن المروءة الحقيقية ليست في تحصيل المكاسب، بل في حفظ التوازن الأخلاقي حين يكون المغري كبيرًا والموقف مواربًا.

 

وإذا أردنا أن نتحدث عن التطفيف في الوجاهة الاجتماعية، فهنا تُصبح الصورة أشد تعقيدًا. ذاك الذي يفرض سلطته على مجتمعه الصغير – أسرة، موظفين، دائرة علاقات – يطالب باحترام مطلق دون أن يحترم، يفرض قرارات دون تشاور، يصدر أحكامًا دون استماع، يطلب طاعة دون حوار. هذا أيضًا مطفف، وإن لبس عباءة الوقار. والناس قد تخضع له، لكنها لا تحترمه. وحين يسقط، لا يأسفون على غيابه.

 

يبقى السؤال: كيف نواجههم؟ لا بالخصومة، بل بالوعي. لا بالضجيج، بل بالثبات. لا بمنطق الانتقام، بل بمنطق الحزم. نأخذ حقوقنا كاملة لا بوقاحة، بل بثقة. نزرع قيم البرّ في أبنائنا، لا لنُخرّج ضحايا، بل لنربّي أحرارًا لا يخدعون ولا يُخدعون.

 

وفي النهاية، لسنا بحاجة إلى عدالة تُقرَأ في الكتب، بل عدالة تُمارَس في تفاصيل الحياة، تبدأ من النفس، وتنتهي إلى المجتمع. أما المطففون، فلا خطر منهم على ميزان الذهب، بل على ميزان الضمير.‏ 

الكاتب: اللواء. م.  عبدالله ثابت العرابي الحارثي  /مستشار كاتب رأي