النهار

٠٨:١٦ م-٢٠ ابريل-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٨:١٦ م-٢٠ ابريل-٢٠٢٥       18425

بقلم: د. غالب محمد طه                      

كنت مستغرقًا في كتابة بحث أكاديمي مهم، أو هكذا خُيّل لي…منهمكًا في جهازي، محاطًا بأفكاري، حين اقترب مني صغيري "أبو بكر"، وقال ببساطة مؤلمة: "بابا، أريدك تجلس معنا أكثر وتلعب".

رفعت رأسي إليه نصف انتباه، نصف قلب، وابتسمت له سريعًا وعدت إلى شاشتي، لكنه أجهز على ما تبقى حين قال بجملة لم يتقنها الكبار:"هيا يا أبي، فنحن بانتظارك".

قلت له: "سآتيكم بعد قليل"، وابتسمت له مجددًا كمن يمنحه وعدًا مؤجلًا. 

لكنّه باغتني بجملة لم أكن مستعدًا لها، جملة ارتجف لها قلبي وسقطت بعدها كل أولوياتي: "غدًا نكبر وندخل المرحلة الثانوية ولن تجدنا".

كان صوته يحمل براءة طفل، لكنه حاصرني كوصية أخيرة، شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدمي، وكأن زلزالًا ناعمًا ضرب وجداني. هذه الجملة التي قد تمرّ على البعض كطرفة، هزّت داخلي كأنها نداء استغاثة من عمرٍ يمضي ولا ينتبه إليه الكبار. 

يا الله…كأن قلبي سقط دون سابق إنذار.

نظرت إليه وأنا أحاول أن أتماسك. لم يكن يدرك أن كلماته هذه، رغم براءتها، اختزلت حقيقة موجعة:"أننا لا شيء بدونهم، لا شيء أبدًا".

هل كبروا إلى هذا الحد؟..هل تمضي الأيام ونحن نعدّ خطوات النجاح وننسى ضحكاتهم؟.. هل نؤجل اللعب معهم حتى يختفوا من زوايا البيت، تاركين وراءهم صورًا وذكريات؟.

نحن نركض خلف العمل، خلف الطموحات، خلف الاستقرار الذي نحلم أن نهديه لأطفالنا، بينما أطفالنا لا يريدون شيئًا أكثر من لحظة معنا…لعب، ضحكة، أو نظرة تُشعرهم أننا هنا بكلنا، لا بنصف قلب مشغول، ولا بنصف عين معلقة على إشعار جديد في الهاتف.

نحن نغيب عنهم اليوم لانشغالنا، وغدًا سيغيبون عنا لانشغالهم..نظن أننا نؤدي أدوارنا كآباء وأمهات، نشتري ما يحبون، نوفر ما يحتاجون، لكننا ننسى ما لا يُشترى: "اللحظة".

نغفل عن وجودهم بيننا، حتى نستيقظ يومًا على فراغ، وعلى أبواب غرفٍ مغلقة، وعلى مراهقين يشبهوننا في الانشغال، ولا يجدون وقتًا للجلوس معنا.

"غدًا نكبر ولن تجدنا"...ليست عتابًا، بل تنبيهًا مبكرًا، تقول لنا: كما تبتعدون اليوم بحسن نية، سنبتعد غدًا بنفس الطريقة.

جملة تختصر حقيقة نعرفها ونتجاهلها، لكنها حين تصدر من فم طفل، تصبح كالمرآة التي تضع قلوبنا أمام الحقيقة:"لن يبقوا صغارًا إلى الأبد، ولن نملك دومًا فرصة إعادة المشهد".

لعلنا بحاجة أن نغلق أجهزتنا قليلًا، أن نؤجل الاجتماعات غير العاجلة، أن نمنح أبناءنا ما هو أغلى من المال… وقتنا.

لأننا حين نكبر، سنكتشف أن الذكريات التي ستبقى ليست في صفحات البحوث، ولا في حسابات العمل بل في لحظات ضحكنا معهم حين قالوا: "بابا تعال نلعب".

نظن أحيانًا أننا نملك الوقت دائمًا، وأن لحظات الطفولة يمكن تأجيلها، لكن الحقيقة أن الأطفال لا ينتظرون. يكبرون على مهل… ثم فجأة!

اليوم نطلب منهم أن يفهموا انشغالنا، وغدًا سنرجوهم أن يفتحوا لنا نوافذ من وقتهم، فنجد أبوابهم مغلقة.

سيكون لهم عالمهم، جدولهم، اهتماماتهم وربما يكررون جملتنا نفسها حين نطرق أبوابهم:"مشغول الآن ، ربما لاحقًا".

فهل نعوّض اليوم ما يمكن أن نفتقده غدًا؟

هل نعيد النظر في قائمة أولوياتنا؟.

هل نجلس بجوارهم قليلًا، لنلعب ونضحك ونشاركهم ما تبقى من طفولتهم قبل أن تصبح مجرد ذكريات؟

يبقى الوقت معهم هو أغلى ما نملكه وهو الشيء الوحيد الذي لا يُمكن تعويضه حين يمضي.

امنح أبناءك الآن ما تحب أن يمنحك إياه الزمن لاحقًا.لأنهم حين يكبرون قد لا تجدهم.بالله التوفيق.