النهار
بقلم: حسناء الزهراني
الانحياز التأكيدي هو أحد أكثر العوائق النفسية التي تمنع الإنسان من رؤية الحقيقة بموضوعية. إنه الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد ما نؤمن به مسبقًا، وتجاهل أي أدلة تتعارض مع قناعاتنا.
هذه الظاهرة تجعلنا أسرى لأفكارنا، فنرى العالم ليس كما هو، بل كما نريد أن نراه. وهنا يأتي التفكير النقدي كأداة لتحرير العقل، إذ يبدأ عندما ندرك هذا التحيز ونتحدى قناعاتنا بنفس الجرأة التي ننتقد بها أفكار الآخرين.
إبراهيم عليه السلام ومواجهة الانحياز التأكيدي
قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام مع قومه تجسد هذا المفهوم بوضوح. عندما كسر الأصنام وعلّق الفأس على كبيرهم، واجهه قومه باستهجان، لكنهم لم يتوقفوا لحظة لإعادة النظر في معتقداتهم. رغم أن المنطق كان واضحًا أمامهم فكيف لصنم أن يكسر غيره وهو عاجز عن الدفاع عن نفسه؟ إلا أنهم تمسكوا بموروثاتهم، لأن عقولهم كانت أسيرة للانحياز التأكيدي. لقد فضلوا الاستمرار في اعتقاداتهم المريحة بدلًا من مواجهة الحقيقة غير المريحة.
إبراهيم عليه السلام لم يكن يسعى فقط إلى دحض أفكارهم، بل كان يريد أن يوقظ عقولهم من غفلتها. لم يكن تعليق الفأس على الصنم الأكبر مجرد حيلة لإحراجهم، بل كان اختبارًا لعقولهم: هل سيتجاوزون تحيزهم وينظرون إلى الواقع كما هو؟ هل لديهم الشجاعة لمساءلة ما اعتادوا عليه؟ لكن عقولهم كانت مغلقة، فاختاروا الإنكار بدلاً من التفكير.
رحلة إبراهيم الفكرية: نموذج للتحرر من التحيز
لم يكن إبراهيم عليه السلام مجرد ناقد لمعتقدات قومه، بل كان أيضًا في رحلة فكرية شخصية لاكتشاف الحقيقة. عندما رأى النجم قال: “هذا ربي”، ثم تراجع عندما أفل. وكذلك مع القمر والشمس. كان يمرن عقله وعقول من حوله على اختبار المعتقدات وعدم التسليم بأي فكرة دون تمحيص. لقد أراد أن يُظهر لهم أن الإله الحق لا يمكن أن يكون شيئًا زائلًا.
وقد سجل القرآن الكريم هذه الرحلة الفكرية العميقة في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَءَا ٱلْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّآلِّينَ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيٓءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 76-79).
لقد خاض إبراهيم عليه السلام تجربة عقلية قادته إلى التحرر من أي فكرة لا تصمد أمام المنطق، مما جعله يضع أسسًا لفهم كيفية مواجهة الانحياز التأكيدي. لم يكن متحيزًا لاعتقاداته السابقة، بل كان على استعداد لتغيير رأيه بناءً على الأدلة، الأمر الذي يعكس جوهر التفكير النقدي. لقد أظهر أن التحرر من الانحياز التأكيدي لا يكون بمجرد رفض المعتقدات الخاطئة، بل بالسعي الدائم لمراجعة القناعات، وطرح الأسئلة العميقة، والبحث عن الحقيقة أينما كانت، دون الاكتفاء بالبحث عن تأكيد ما نؤمن به مسبقًا.
التفكير النقدي: سلاح ضد الانحياز
التفكير النقدي ليس مجرد مهارة ذهنية، بل هو شجاعة فكرية. إنه الاستعداد لمساءلة ما نؤمن به، وعدم التمسك بفكرة لمجرد أنها مريحة أو مألوفة. عندما نتحرر من الانحياز التأكيدي، نصبح قادرين على رؤية العالم بموضوعية، ونتوقف عن خداع أنفسنا.
لقد أراد إبراهيم أن ينقل قومه من عالم الوهم إلى الواقع، من عبادة أصنام لا تضر ولا تنفع إلى الإيمان بحقيقة لا تقبل التشكيك. لكنه واجه عقولًا مغلقة لا تريد أن ترى ما هو واضح أمامها. وهذا ما يحدث مع كل من يحاول مواجهة الانحياز التأكيدي: الحقيقة قد تكون واضحة، لكن قبولها يتطلب شجاعة.
الانتقال من الوهم إلى الحقيقة
التحرر من الانحياز التأكيدي ليس مجرد تغيير رأي، بل هو تحوّل جذري في طريقة التفكير. إنه الانتقال من العيش في وهم مريح إلى مواجهة الحقيقة مهما كانت صعبة. وهذا لا يحدث إلا عندما نمتلك الجرأة لمساءلة أنفسنا بنفس القوة التي ننتقد بها الآخرين.
كما فعل إبراهيم، علينا أن نتعلم كيف نختبر أفكارنا، وأن نسأل أنفسنا: هل نؤمن بشيء لأنه صحيح، أم لأننا نريد تصديقه؟ هل نبحث عن الحقيقة، أم عن راحة البقاء في المألوف؟ الإجابة على هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى نحو التحرر من الوهم ورؤية الواقع كما هو.