الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ٠٤:٣٨ م-٢٥ مارس-٢٠٢٥       16225

بقلم: لواء. م. عبدالله ثابت العرابي الحارثي

الأخوة رابطة مقدسة تحمل في طياتها أسمى معاني المحبة والتآزر، فهي ليست مجرد علاقة دم، بل بناء متين من العون والسند والوفاء. ومع ذلك، قد تعصف بها الخلافات، شأنها شأن أي علاقة إنسانية، لكن الفارق أن شرخها عميق، وألم فراقها موجع للقلب، لا يداويه إلا الصلح ولمّ الشمل.

إن فقدان الأخ لأي سبب كان مؤلم، فكيف إذا كان الفقد بسبب القطيعة والجفاء؟ حين يتباعد الإخوة، لا يخسر أحدهما الآخر فقط، بل تخسر الأسرة تماسكها، وتنزف قلوب الوالدين حزنًا، وتنطفئ أنوار المودة التي كان يمكن أن تضيء الحياة بالتآلف والتراحم.

كم من خلاف بدأ بتافه القول، ثم امتد حتى صار خصومة تُرهق القلوب! وكم من إخوة تباعدوا لسنوات طويلة، لا يجمعهم إلا طيف الذكريات! وكم من والدين عاشا قهرًا لا يُطاق لأن أبناءهما فرّقتهم الدنيا دون مبرر! والأشد ألمًا أن هذه القطيعة، التي بدأت بسبب العناد، تستمر بفع ل الكِبر، حتى تصبح سدًّا يصعب تجاوزه، رغم أنها في بدايتها كانت قابلة للحل بكلمة صادقة أو اعتذار بسيط.

وعندما يتحرك المصلحون لرأب الصدع، يصطدمون برفض غريب، وكأن الاعتذار مذلة، وكأن التنازل كسرٌ للكرامة. “أتريدني أن أنكسر؟ أتريدني أن أتنازل له؟” كلمات يسمعها أهل الصلح مرارًا، وكأن المسامحة ضعف، مع أن التسامح قوة، ومن يعيد المياه إلى مجاريها فإنه يرتقي بنفسه إلى مقامٍ عالٍ من النُبل والوفاء.

ومع دخولنا هذه الأيام المباركة، في هذا الشهر الفضيل، حيث تتجلى الرحمة، وتُفتح أبواب المغفرة، وتتهيأ القلوب للخير، فإننا نناشد الإخوة المتخاصمين أن يجعلوا من هذا الشهر الكريم فرصة لمراجعة النفس، والمبادرة إلى التصالح، فالله يحب المتسامحين. وكم من قلوب تنتظر هذه اللحظة! كما أن المسؤولية تقع على العقلاء في الأسر، من الآباء والأمهات والأعمام وكبار العائلة، ليكونوا همزة الوصل، ويسعوا لإنهاء القطيعة قبل فوات الأوان.

وهنا، لا بد أن نذكر نموذجًا حيًا من الواقع، لرجل لم يفقد الأمل في الصلح بين خمسة إخوة، رغم محاولاته المتكررة التي باءت بالفشل. لكنه لم ييأس، بل أعاد ترتيب الأمور، واختار مصلحين يحظون بثقة الجميع، وجمع الإخوة في بيته ليلة العاشر من رمضان. كان المشهد مهيبًا، رجال وقورون، من أسرة كريمة، التزموا الصمت أول الأمر، ثم بدأت لحظات الصلح تذيب جليد تسعة عشر عامًا من القطيعة. وما إن تصافحوا، حتى بادر الأخ الأكبر بالاتصال بوالدتهم ليبشرها بأن أبناءها قد عادوا لبعضهم، فكان صوتها المتهدج بالبكاء والدعاء أعظم شاهد على عظمة هذا الصلح. مشهد لن يُنسى، يعكس كيف أن السعادة الكبرى ليست في المال ولا في الجاه، بل في لمّ الشمل وردّ الحقوق العاطفية إلى أصحابها.

كم من مثل هذه الفرص فاتت؟ وكم من أسر تنتظر لحظة مماثلة؟ فهلّا بادرنا إليها؟

إن المجتمعات التي تعزز قيم التسامح، وتغرس في أبنائها فضيلة الإصلاح، تبقى متماسكة مهما عصفت بها الخلافات. وفي المجتمع السعودي، بفضل الله، لا تزال روح التراحم حاضرة، ولا يزال الخير نابضًا في النفوس، لكن الحاجة ماسة لتعزيز ثقافة الصلح، وتشجيع المبادرات التي تجمع القلوب المتباعدة، بدءًا من الأسرة ووصولًا إلى المجتمع بأسره.

إن الأخوة كنز، فمن كان له أخ، فليحافظ عليه، وليبادر إلى الوصل قبل أن يصبح الندم بلا جدوى. فإن كان بينك وبين أخيك خلاف، فتذكر أن الأيام تمضي، وأن العمر أقصر من أن يُهدر في الجفاء. اقترب، بادر، وتذكر أن اليد التي تمتد للصلح لا تمتد إلا لصاحب قلب كبير، وعقل راجح، ونفس سامية.

اللهم اجعلنا من المصلحين بين الناس، وارزقنا نعمة الوصل، وأبعد عنّا شتات القلوب وفرقة الأحبة، واجعل من هذا العيد السعيد عيد التسامح والصلح بين الإخوة المتخاصمين.