النهار

٠٣:١٣ م-٢٢ مارس-٢٠٢٥

الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٣:١٣ م-٢٢ مارس-٢٠٢٥       18150

بقلم: د. غالب محمد طه

"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا." بهذه الكلمات البسيطة التي تحمل في طياتها معاني عميقة من التسليم والإيمان، علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نناجي ربنا في ليلة القدر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني."

ما أعظمك يا بنت الصديق، وما أعظم سؤالك، وما أعظم مَن سُئل عنه (عليه أفضل الصلاة والتسليم)، وما أعظم هذا الدين، وما أعظم مَن حمل أمانته تبليغًا وهداية. 

هذه الكلمات تحمل في طياتها دلالات عظيمة، تناجي رب السماوات والأرض بيقينٍ وتسليم ورجاء عند بابٍ من أبواب رحمته الواسعة، تخترق هذه الكلمات الباهرة عنان السماء، منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، تدعو بها القلوب قبل الألسن وتخفق لها الأفئدة عند ترديدها، طلبًا للرحمة والمغفرة والعتق من النيران.

يقول الله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" [القدر: 1-3]. هي أيام معدودات تمضي كلمح البصر، وليلةٌ واحدةٌ تعادل عبادة أكثر من 83 عامًا! أي فضلٍ أعظم من هذا؟ أي نعمةٍ أكبر من أن يمنحنا الله فرصةً كهذه لتجديد حياتنا ومحو ذنوبنا؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه." (متفق عليه."

أي بشرى تلك؟ وأي حافز رباني جاء على لسان أصدق البشر؟ 

إنها بشرى عظيمة تدفعنا إلى الاجتهاد في هذه الليالي  لنخرج منها مغفورًا لنا، خفيفًا من أعباء الذنوب، وكأننا وُلدنا من جديد. 

يا لها من عظمة، أن تُختصر حاجة العبد كلها في طلب العفو! ويا لها من حكمة، أن يكون العفو هو المفتاح في ليلة هي خير من ألف شهر!

وفي مشهد مهيب، تصطفُ جموع المسلمين في المساجد، صغيرهم وكبيرهم، صفوفًا كأنها لوحة فسيفسائية عظيمة، تتداخل فيها الأرواح قبل الأجساد، وتتوحد فيها القلوب قبل الأقدام . 

من كل الأجناس والأعمار، يتراصّون في انتظامٍ بديع، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين عربي وأعجمي، فالكل سواسية أمام الله، يخشعون بركعةٍ واحدة، ويرفعون أكفهم بدعاء واحد، ويُذيب نور الإيمان كل الفوارق بينهم. كأن الأرض تمتدّ سجادةً واحدة، والكون كله يتحول إلى محراب، حيث لا صوت يعلو فوق صوت التهجد، ولا رجاء يُرفع إلا إلى الله .

هي ليلة اختصها الله من بين الليالي. ليلة تصفو فيها الأرواح، وتتجلى فيها معاني الرحمة، تُمحى فيها الذنوب، تُبدّل الأقدار، وتُرفع فيها الدعوات بأمل لا ينكسر. 

ملايين العابدين يسجدون، يتهجدون، يبتهلون، يسابقون الزمن في الليالي العشر، يرجون نفحةً من رحمة الله، وقطرةً من فيض مغفرته.

إن العمل الصالح الذي يُؤدى في ليلة القدر يتفوق في فضله وأجره على العمل في ألف شهرٍ خالية منها. هذا التفضيل الإلهي ليس مجرد مقارنة رقمية، بل هو إعلانٌ عن عظمة هذه الليلة وقدرتها على تغيير مصائر العباد. إنه أمرٌ يُذهل العقول ويُثير الدهشة، إذ كيف ليلة واحدة تُعادل عمرًا طويلًا قد يمتد لأكثر من ثمانين عامًا؟

يا من تبحث عن نور الطريق، ليلة القدر ليست مجرد مناسبة عابرة، بل هي فرصة قد تغيّر حياة إنسان بأكملها. كم من دعوةٍ في ليلة القدر فتحت أبواب الفرج بعد سنوات من العسر؟ كم من سجدةٍ محت صحيفة الذنوب وبدلتها حسنات؟ وكم من قلبٍ مثقل بالأحزان خرج من سجدة التهجد خفيفًا كأنه وُلد من جديد؟

إنها ليلة العمر، فلا تضيعها! أقبل على الله بقلبك، بخضوعك، بدموعك، ولا تحمل همّ المستقبل، فأنت بين يدي من يدبّر أمرك، ويعرف حاجتك، ويحب العفو، وينتظر أن يقول لك: قد عفوت عنك.

والآن، وقد أدركتَ عظمة هذه الليلة، كيف ستستقبلها؟ هل ستدعها تمر كسائر الليالي، أم ستجعلها بداية جديدة في علاقتك مع الله؟ ارفع يديك الآن، واطرق باب السماء، فإن ربك قريب، ويحب أن يسمع دعاءك.

طوبى لمن وفّقه الله تعالى وأعانه على اغتنام هذه الليلة المباركة، ليلة القدر، التي هي محطةٌ إلهيةٌ للتجديد والرحمة. إنها فرصةٌ ذهبيةٌ تُقدّم للأمة، ليلةٌ يُقدّر فيها القدر وتُرفع فيها الدرجات، وتُغفر فيها الذنوب. من أدركها بقلبٍ خاشعٍ وعملٍ صالحٍ، فقد فاز بفضلٍ عظيمٍ ونعمةٍ لا تُقدّر بثمن. إنها ليلةٌ تُذكّرنا بعظمة الخالق ورحمته الواسعة، وتدعونا إلى التفكر في نعمه التي لا تُحصى.

كم من إنسانٍ كان يعيش في ظلام الذنوب، فاستجاب الله لدعائه في ليلة القدر، فغفر له وبدل حاله؟ كم من قلبٍ مثقلٍ بالهموم، فخرج من ليلة القدر خفيفًا كالريشة؟ إنها ليلةٌ يمكن أن تكون بدايةً جديدةً لحياتك، فرصةٌ لتغيير مسارك نحو الأفضل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان." (رواه البخاري). فلا تدع هذه الليلة تمر دون أن تطرق باب الله، وتطلب عفوه ورحمته. ارفع يديك، وادعُ بقلبٍ خاشع: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني."

  وبالله التوفيق