

النهار
بقلم- جيلان النهاري
في أول يوم من رمضان هذا العام، وفي لحظات أجواء روحانية تَهُفُّ نسائمها أجواء الحرم المكي بمناسبة سنوية خاصة يعيشها مسلمين الأرض على بسيطتها وفوق أقطابها.
تشاهد وتحذق العيون وهي في صحن الطواف في الحرم المكي، تحذق في تعابير وملامح وجوه نُسَّاكَ بيت الله الحرام، كيف كانت حالتها لحظتها، وكم هي مُنتَشية فَرِحة، ومن أين أتت، ومن أي أعراق وأمم هي تلك الوجوه؟.
في سويعات الإعتمار، ولحظات الإفطار على صوت الأذان، وعند تأدية ركعات الصلاة، والتَعَبُّد بالنوافل جماعة مصطَّفين من جميع الأمم والأعراق البشرية من المسلمين منتشرين في باحات حرم الله وبيته العتيق وفي وقت واحد، وملائكة الرحمة تحفهم نعمة من الله عليهم، والعالم مباشرة عبر الأثير بمذايعيهم وشاشاتهم، يسمعونهم ويشهدونهم، وهم في نقاء وصفاء مقترنان ببياض لبسهم وإحرامهم، الذي يعكس تطَهُّر قلوبهم الطائفة حول الكعبة المشرفة والهائمة حول نسائم وروائح مسك وعنبر وعود أنفاس زوار أول بيت وضع لهم:
[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)] سورة آل عمران.
منذ خلق أبونا آدم عليه السلام، والنفس تشتاق إلى مأواها الحقيقي وبيتها الذي يهوي إليه فؤادها، وتتلمس هذه النفس المتعلقة بخالقها الطريق إلى هذا البيت الحق الذي تجد به راحتها في تطهرها من كل ما شابها من براثن السلوك وآثام الأخلاق وفقر الإنسانية، حتى أن دعى نبي الله إبراهيم عليه السلام ربه:
[رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)] سورة إبراهيم.
فمن ذرية أبونا إبراهيم إبنه إسماعيل وذريتهما عليهما السلام، أنعم الله بهم على الأمم المؤمنة المسلمة مهما أختلفت أعراقها وإثنياتها المتواجدة في أصقاع الأرض، لقد أنعم عليهم بالذرية العربية الذين بعث منهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله قرآنه ووحيه بلغتهم، فعلى يدهم وهبهم الله نعمة لم تكن موجودة في تاريخ الأرض منذ أبو الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام سوى في زمنين نالت العرب فيهما شرف أرقى خدمة لضيوف الرحمن وتحقيق الأمان للزوار القادمين إلى بيت الله المحرم معتمرين وحجاج، حيث يقدم العرب لهم الوفادة والرفادة والسقاية، برحابة قلب وكرم خلق وسعة نفس، وجمال وإسفرار وجوه وأسارير عيون ، وتجسد هذا الشرف للعرب في زمنين متباعدين الأول في زمن قريش أحفاد الجد قصي بن كلاب، والثاني في عهد آل سعود الذي تحققت فيهم المعاني الحقيقية لدعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ .. ] سورة البقرة.
فالحمدلله الذي أقسم بهذا البلد الأمين في قوله تعالى:[وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)] سورة التين، ويعلم جل جلاله من هو العابد الأواب والأمين الذي يأمنه على بيته الحرام والبلد الأمين فَيُهيِئهُ ويُمَكِنُهُ وليُحَمِلُه أمانته لأجل حكم هذه الأرض المباركة، فتَحَمَّلها ملوك المملكة العربية السعودية ومَكَّنَهُم الله بأمره، ولم يقبلوا إلَّاَ أن يكونوا خداما للحرمين الشريفين وأشركوا شعبهم في هذا الشرف العظيم الذي نراه اليوم متجسدا في أرقى أحساس للراحة التي نشاهدها على وجوه الأمم والأعراق المؤمنة والمسلمة المتعبدة المصطفة الراكعة الساجدة على بلاط ساحات الحرم.
أدام الله على ولاتنا حفظهم الله هذا الشرف وجعلنا شعبا وفيا أمينا عونا لهم إلى أن تقوم الساعة.

