

أحمد سليمان النجار
بقلم - أحمد سليمان النجار
كان يرفلُ مُختالاً بثوب العز والغنى، وكان دُعبلي النظرة للناس كلهم - يفتح عينيه على كثيرِ ولايرى أحداً - متغطرساً متعالياً مُتعاظماً ودون حد، فجرتْ عليه صروف الدهر، ونزعتْ عنه ذاك الثوب، حتى افتقر ولم يعد يجد مايقتات به، فأشارعليه رجلٌ أن يعمل عنده بائعاً على ( بسطة ) الخُضار، وكان يقف وينادي بصوت عالٍ وبكل خيلاء:(جرير ياحثالة، طماطم ياهمج، بطاطس يارعاع)..!!
في علم الاجتماع نظرية تُسمى بـ (الدور الاجتماعي) وهي باختصار تدور حول المقولة المأخوذة من الحاج شيخ كبير ( وليم شكسبير):“إن الدنيا مسرح كبير و أن كل الرجال و النساء ما هم إلا لاعبون على هذا المسرح ..!! “، وبمعنى آخر هو سلوك الشخص وتصرفاته داخل دور اجتماعي معين، بما في ذلك توقعات من حوله ومطابقته لتلك التوقعات أو مخالفتها، وكذلك مدى رضاهم عنه وعن أدائه للدور..!!
ولأن هذا الملف ملفٌ ضخم للغاية ومتشعب ومتشابك , ويحمل الكثير من الأفكار، وكذلك بسبب الخلط بين الدور الاجتماعي والمكانة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية , فلقد رأيتُ - بعد كريم إذنكم - أن اشتق من هذه النظرية , نظرية فرعية، واسميتها بـ ( الثوب ) الاجتماعي أو ( الكندورة ) وهي التسمية التي تُطلق على ( الثوب ) بلهجة أهل الإمارات الحبيبة.
وعلى الحقيقة أنا قد استلهمت هذه التسمية من موضعين اثنين :
الأول :
استخدام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه التسمية في حديثه لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - حيث قال في الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها :
( يا عثمانُ إن اللهَ مُقَمِّصُكَ قميصًا، فإن أرادك المنافقونَ على خَلْعِهِ فلا تَخْلَعْهُ )
والثاني :
من مقولة : ( لاتحكم على رجلٍ ما , مالم تمشِ ميلاً في حذائه ) والتي قرأتها يوماً وهي تُُنسب لقبيلة ( شيروكي ) من الهنود الحُمر..
ولأن - وفي نظري - وصف الثوب والذي استخدمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدق وأذكى وأعمق بكثير, فلقد استبدلت الثوب - أكرمكم الله - بالحذاء..
وبداية، لامناص من القول :
التقييم عملية ينشأ عنها - شئنا أم أبينا - حكم , وذلك مايجعلها مهمة حساسة وخطيرة وصعبة ومعقدة وللغاية، وليس كل أحدٍ له الحق في فعل ذلك , مالم تكن هناك حاجة ماسة لذلك، ويكون ذلك منضبطاً بمعايير ثابتة وليست نسبية، وقواعد مُحكمة، وعلى رغم ذلك ، كثيراً ماتكون نسبة خطأ التقييم عالية وبالتالي الحكم خاطئ، وكل مايترتب عليه خطأ ..!!
فنصيحة، كلما استطعت أن تنأى بنفسك عن تلك الدائرة، فافعل ولا تتردد ..
ولكن - وتلك الوحيدة التي لاتهدم ماقبلها - إن كنت لابد فاعلاً، فلا تُقيم إنساناً بشكلٍ عام، إلا في بعض الحالات التي تستوجب ذلك، مثل الزواج وغيره , ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه )¸ وهذه الحالات محدودة للغاية، ولكن - وفي الغالب، لأننا لسنا وكلاء من الله لتقييم الآخرين والحكم عليهم- فنحن نُقيم شخصاً ما بشكل جزئي، وحسب الثوب الاجتماعي الذي تقيمه فيه، وعندما تفعل ذلك - مُضطراً - فتنبه لأمرين اثنين :
الأول :
تنبه عندما تقوم بتقييم شخصٍ ما - حسب الثوب الاجتماعي الذي يرتديه - أن تقييمه وهو يرتدي ثوب الأب - مثلاً - لن يكون كتقييمه وهو بثوب الزوج , ولن يكون وهو بثوب المسؤول، ولن يكون وهو بثوب الصديق، فقد يكون أباً رائعاً لكنه زوج غير ذلك، وقد يكون صديقاً محبوباً ومميزاً ولكننه زوج غير ذلك , وقس على ذلك ...
فحدد المجال أو الثوب الذي تريد تقييمه فيه، صحيح أنه ليس هناك فواصل بين الأثواب , وأن تأثير كل ثوب قد يمتد - سلباً أو إيجاباً - للثوب الآخر، فقد تؤثر المشاكل التي يواجهها الإنسان عند لبسه ثوب الأب، على جودة أدائه عندما يرتدي ثوب المسؤول - والعكس صحيح - ولكن هذا الجانب لايندرج - حقيقة - تحت فكرة التقييم المُجرد والذي يُقصَدُ منه إصدار حكمٍ ما فحسب، ولكنه يندرج تحت التقييم الذي يسبق عملية التقويم , فأنت عندما تتصدى لمهمة تحسين جودة أداء موظف - مثلاً - فأنت مُلزمٌ بتقييمه في ثوب منصبه الوظيفي , وكذلك ملزمٌ بعدم إغفال التأثيرات الجانبية لبقية ثيابه، وهذه مهمة ضخمة يقوم بها مختصون مؤهلون لذلك، ولكن نحن - كأناس غير مختصين - نحتاج فقط لتقييمه في حدود ثوبه المُحدد , ولاعلاقة لنا ببقية أثوابه المُختلفة , فنقول :
مدير متميز , زوج رائع , صديق ممتاز ...., وقد تسمعك زوجته وأنت تقول :
صديق رائع , فتعقد حاجبيها وتفتح فمهما مندهشة وتسأل باستغراب :
رائع ؟!! أيتحدث عن زوجي ؟!!
أوه , لو يعلم حقيقته المُرَة ..!!
هي لم تكذب , وأنت لم تدعِ فيه ماليس فيه، بل هو في ثوب الصديق رائع , وفي ثوب الزوج غير ذلك، فلكل ثوب ظروفه وخصوصيته ..!!
الثاني :
تذكر وأنت تتعامل مع الآخرين، أن من تتعامل معه وهو بثوب موظف منكسر أو عامل ضعيف، هو في ثوب آخر - أب / أم - له سلطته وقوته وشخصيته وهيبته، فلنتقِ الله ولنراعِ ذلك , فالأيام دول ..
وختاماً :
أصريت على تسمية ذلك بالثوب، لأن الثوب من الممكن خلعه وتبديله بسهولة، ومن يملك هذه القدرة , فيخلع ثوب المسؤول المتنفذ - مثلاً - ويرتدي ثوب الزوج ( اللي تعطيه زوجته على دماغه ثلاث مرات يومياً بعد الأكل)، ويرتدي لكل مجال ثوبه المناسب، فسوف يعيش حياة هانئة هادئة صحية، وحتى لو جرت عليه صروف الدهر - لاسمح الله - واضطر للوقوف بائعاً على ( بسطة ) خضار , فسيرتدي ثوب البائع البسيط، وقد يُبدعُ فيه، ولن ينادي :
(الخس ياخسيس، الحبحب يارمم ..!! )

