أحمد سليمان النجار 

١٢:٥٤ م-١٩ نوفمبر-٢٠٢٤

الكاتب : أحمد سليمان النجار 
التاريخ: ١٢:٥٤ م-١٩ نوفمبر-٢٠٢٤       44495

بقلم | أحمد سليمان النجار

دارت أحداث هذه  القصة الواقعية منذ زمن بعيد في قهوة شعبية قديمة , كُنا نجتمع فيها لنلعب لعبة ( البلوت ) الشهيرة , حيث كان التردد على هذه ( القهاوي ) مسبة , وكان يُنظَرُ إليها أنها ( ملم الهَمل ) , وكانت أسرتي - وكثيرٌ من الأسر المحافظة مثلها - ترفض دخول أولادها إليها , وكان إخبار أحد الوالدين بأن ابنك فلان جالس في القهوة , خبر صادم وسيء للغاية ..!!

ورغم ذلك كُنا نذهب إليها سراً , ونختار ( قهاوي ) بعيدة عن الحي ولايعرفنا أحدٌ فيها , لأن الرفض لها كان شديداً للغاية , لدرجة أن أحد المنضمين لنا فيها , أخبرنا أن أمه قالت له حين يأس :
( والله , أنا من يوم ماشفتك تماشي الهمل حقين القهاوي - قصدها أحنا بلا فخر - وأنا غاسلة يدي منك ..!!)

وذات يوم كنا أربعة أشخاص في قهوة فوق سطح أحد المباني نلعب ( البلوت ) , وكان معنا شخص معروف بعصبيته وانفعاله الشديد أثناء اللعب , ولاحظنا أثناء دخولنا القهوة , وجود شخص من شرق آسيا , جالساً في القهوة ، وفوق ذلك كانت أمامه ( شيشة ) يشرب منها ..!!
استغربنا المنظر جداً , ولكننا تجاوزناه إلى اللعب , وانهمكنا فيه , ونسينا وجوده , وكان صديقنا الغضوب , كعادته متشنج وصوته عالٍ ,وكان إذا غضب يستخدم ألفاظاً أجنبية , وكأن ( سره مدفون في بيفرلي هيلز ) !!
وأغلب الظن أن محارب ( الشيشاراي ) ظنَ أن الحديث موجه له , ففجأة قفز من مكانه و ( رمى لي الشيشة ) ووقف يصرخ علينا ويتحدث بغضب شديد ويلوح بيده , ويدعونا للقتال , فطلبت من الشباب أن نتجاهله , فوجوده في القهوة من الأساس مريب وغير مبرر , ولكنه تمادى كثيراً واندفع نحونا , وعلمنا أنه مقاتلنا لامحالة ,  فقمنا له وقد تلبستنا روح عنترة بن شداد , وطلبت من الشباب عدم مغادرة القهوة للخارج , فالمساحة الضيقة ستسمح لنا في أشد الظروف - إذا كان محترفاً لأي لعبة قتالية من التي كنا نشاهدها في أفلامهم , وشعرنا بأنه سـ ( يمردغنا ) - أن ( نتصافق معه بالشيش ) ثم ( نتماسك بالشوش )  ، حيث كانت له ( شوشة )** كثيفة للغاية , ولكنه استطاع أن يستدرجنا لخارج القهوة , حيث المساحة المفتوحة , وفجأة ودون مقدمات , اختار أكبرنا وأضخمنا وسدد لعينه لكمة - وفي رواية ( جِمع ) - كادتْ أن تذهب بها , فتكوم الرجل على الأرض ( دائخاً ) , وكما يقول السوريون :
( لا من تمو ولا من كمو ) ، وبذلك فقدنا أهم خط دفاع لنا , أما العصبي الغضوب فطوال المعركة كان يركض في كل اتجاه يبحث عن عصا أو حديدة يضرب بها الخصم ..!!
وبقينا شخصان في مواجهة ( جراك لي ) العنيف , والذي ( فجعنا ) بما صنعه بعين ( أتخن واحد فينا ) , وكان حقاً يلدغ كالنحلة ويرقص كالفراشة ..!!

قضينا وقتاً طويلاً في كر وفر , لم يقترب أحدنا من الآخر , حتى اكتظ المكان بالناس , فجاء الغضوب وهو يركض بكل سرعته وهو يحمل كرسياً بقوائم حديدية , ثم رماه تجاه المقاتل والذي تفاده بسهولة بالغة , فسقط الكرسي على الزجاج الأمامي لسيارة صديقنا الساقط على الأرض , ورأيته يحاول وبكل صعوبة أن يفتح عينه السليمة ليشاهد زجاج سيارته المُهشم ..!!

ثم ركض المقاتل بسرعة بالغة مختفياً داخل الحي , وتنفسنا الصعداء , وشعرنا بالانتصار حقاً , وكان من المفترض أن نطارده ، لكن تظاهرنا بانشغالنا بإنقاذ صديقنا ذي العين ( المصفوقة ) .والزجاج المُهشم .!! ولم نعد لهذه القهوة حتى هذه اللحظة ..!!

وسأعود بكم بعد هذه القصة إلى أيامنا هذه , فما زالت فكرة القهوة القديمة موجودة , وهي مكان يجتمع فيه مجموعة من الأشخاص , ليتناولوا مشروبات ساخنة وباردة , وأحياناً ( شيشاً ومعسلات ) , ولكن أصبح اسمها ( مقاهي ) وليس ( قهاوي ) , وأصبحت أكثر فخامة وكذلك نظافة , وأصبحت هناك أرائك مريحة بدلاً عن كراسي السعف القديمة , و ( البراريد ) الخزف الشهيرة , وأصبح الدخول إليها والتواجد فيها ليس مسبة كالسابق , بل إن بعض العوائل تقضي فيها بعض الأوقات في لقاء عائلي , وأصبح زوارها من الجنسين ومن كل الأعمار تقريباً , بل إن بعض هذه المقاهي تخصص وقتاً لفعاليات ولقاءات ثقافية وأدبية مُختلفة ,
وإن كنت في البداية أرفض كثيراً من الدعوات التي كانت توجه لي لاستضافتي في أحد هذه ( المقاهي ) في لقاء ثقافي , وكنت أقول في نفسي :
أنا لست ( حكواتي ) كذاك الذي كنا نشاهده في بعض المسلسلات القديمة , والذي كانوا يحضروه لتسلية الزبائن , وزيادة المبيعات ..!!
ولكن عند قبولي لدعوة من الدعوات , علمتُ أن الوضع مختلف لحد كبير , وأن الحضور لم يحضروا إلا من أجل الاستماع لي , ولم يكن المقهى يفرض طلبات ولا شروطاً معينة ..

ياكرام :
استخدمتُ المقارنة بين ( القهاوي ) القديمة و ( المقاهي ) الحديثة , ليس للدعوة لدخول ( المقاهي ) والجلوس فيها , ولكن لبيان كيف يمكن أن يتغير موقف المجتمع من أمر ما ( 180 ) درجة , لأن هذا الأمر ماعاد يحمل السلبيات السابقة , وبات فيه كثير من الإيجابيات , وهذا ماأريد الوصول إليه تحديداً .., فالعقل - كان عقل مجتمع أو فرد - هو إما عقل ( قطعي حُكمي ) متحجر متصلب , ثابت على موقف ما من أمر ما , مهما تغيرت سلبيات أو إيجابيات هذا الأمر , فالخطأ عنده خطأ مهما كان , والصواب صواب مهما كان , أو عقل ( وصفي ) يطلب منك أن تصف له الأمر وصفاً دقيقاً قبل أن يصدر حكمه بالصواب أو الخطأ , وبناء على الوصف ومافيه من سلبيات أو إيجابيات يتم إصدار الحكم , وهذا هو العقل القابل للتطور والتمدن , وهو مرن ومتفاعل للغاية , وهذا الجزء وإن كان يمثل بعض الفكر ( البراغماتي ) , ولكنه منطق حياتي يدل على رقي وتفتح أصحابه ..

( الشوشة ) * كما جاء في لسان العرب :
 ذؤابة أعلى الرَّأس ..