الكاتب : لواء م عبد الله ثابت العرابي الحارثي
التاريخ: ١١:١٥ ص-٢٤ اكتوبر-٢٠٢٤       22275

بقلم - لواء م عبدالله ثابت العرابي الحارثي 

منذ عقود، وضع المفكرون مثل جوستاف لوبون وفريدريك نيتشه وجورج أورويل أسساً لفهم سيكولوجية الجماهير، واصفين كيف يسهل التلاعب بالجماهير عبر الأوهام، وكيف أن من يحاول إيقاظهم على الحقيقة يصبح هدفاً لعداوتهم.

 لوبون قال في كتابه سيكولوجية الجماهير: من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيداً لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم. هذه الفكرة الأساسية تجد تطبيقاتها في كل مكان، لكن ربما أكثر ما نراه اليوم في المشهد العربي والإعلام المتداول حول الأحداث في غزة ولبنان.

ما قاله نيتشه يُعزز هذه الرؤية حين أكد : لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد أن قول الحقيقة سوف يقربك من الناس، فالناس يحبون ويكافئون من يستطيع تخديرهم بالأوهام. نيتشه أدرك حقيقة مريرة: ليست الحقائق ما يجذب الناس، بل الأوهام التي يعيشونها، والتي غالبًا ما يعرفون في قرارة أنفسهم أنها ليست حقيقة، لكن واقعهم المرير يجعلهم يتعلقون بها. لذلك، من يروّج لهذه الأوهام يصبح محبوبًا، بينما من يحاول كشف الحقيقة يُقابل بالعداء.

 

أورويل ذهب أبعد من ذلك حين قال: في زمن الخداع الشامل تصبح الحقيقة عملاً ثورياً. هذه العبارة تصل بنا إلى عمق المشهد الإعلامي العربي اليوم. فبينما تعج وسائل الإعلام بمن ينقل الأوهام، يُهاجم بقسوة من يحاول كشف الحقيقة، حيث يدافع الناس عن أوهامهم وكأنها الحقائق المطلقة، فيتحول قائل الحقيقة إلى "عدو" لا لكونه مخطئًا، بل لأنه تجرأ على فضح الوهم الذي يُغذي ضعفهم.

 

والأمر ليس جديدًا على الجماهير العربية، بل هو نمط قديم ومكرر، خاصة في العصر الحديث. نرى جذوره تعود إلى إذاعة "صوت العرب" في القاهرة، حيث كان المذيع أحمد سعيد يقود موجة من عنتريات القومية العربية، التي وعدت الجماهير بالانتصارات والوحدة، بينما كانت الهزائم تترى. نكسة 1967، التي جلبت معها واقعًا مريرًا، كانت نتيجة لهذا التناقض بين الخطاب الحماسي والواقع المرير. 

 

ومع ذلك، لم تتعلم الجماهير من هذه التجربة، بل استمرت في الوقوع في فخ الإعلام الذي يغذي أوهامها. اليوم، نجد بعض القنوات مثل "الجزيرة" تسير على خطى تلك الفترة، حيث تقدم للجماهير برامج تغذي العاطفة والشعارات، بينما تُتهم القنوات التي تحاول تقديم الحقائق والتحدث بصراحة بأنها "صهيونية" أو تخدم أجندات خارجية، مثل قناة العربية. ولعل هذا يفسر لماذا يجد الإعلام الذي يقدم الأوهام جمهورًا كبيرًا، بينما تُحارب القنوات الأخرى التي تسعى لكشف الحقائق.

هكذا، نجد أن الجماهير العربية ما زالت، كما وصفها هؤلاء المفكرون العظام، تتعلق بالأوهام التي تقدمها بعض القنوات الإعلامية، وتواجه كل من يحاول كشف الحقيقة بعداء وشك. هذه الديناميكية التي وصفها لوبون ونيتشه وأورويل تُجسد المشهد الحالي للإعلام والجماهير في العالم العربي، خاصة فيما يتعلق بالحروب والصراعات مثل تلك التي نراها اليوم في غزة ولبنان.

 

وفي الختام : نلاحظ أن سلوكيات الجماهير العربية تجاه الإعلام لم تشهد تغيرًا جذريًا عبر العقود. من أيام 'صوت العرب' إلى الإعلام الحديث، ما زالت الجماهير تميل إلى تصديق الأوهام والهروب من مواجهة الحقائق المرة. الإعلام الذي يطابق هذه التطلعات ويقدم ما ترغب الجماهير في سماعه، غالبًا ما يحظى بالدعم والتقدير. في المقابل، أي وسيلة إعلامية تسعى إلى مواجهة هذه الأوهام وكشف الحقائق تتعرض للهجوم وتُعتبر عدوًا، بغض النظر عن نواياها أو موضوعيتها. وهكذا، تبقى الحقيقة غير مرحب بها في عوالم تسيطر عليها الأوهام.