

اللواء ركن م -حسين محمد معلوي
السودان والمستقبل المجهول
يقول مواطن سوداني عن احوال السودان " إن سألوك عن السودان فقل هو دولة بجمال يوسف وحزن أبيه وفساد اخوته "إن هذا الوصف جميل ودقيق يحاكي أوضاع السودان الذي اندلعت فيه المواجهات بتاريخ السبت (١٥ ابريل ٢٠٢٣ م ) بين قيادة الجيش السوداني التي يقودها الفريق اول "عبدالفتاح البرهان" وقيادة قوات الدعم السريع وقائدها الفريق اول "محمد حمدان دقلو" ( حميدتي ) ، ويظهر للمراقبين باعتراف الجنرالين أن هدف كل منهما القضاء على الطرف الآخر والإستئثار بالسلطه ، أما سبب الخلاف فهو تباين الرؤيه السياسية بينهما ، فالبرهان حول اهتمامه من مفاوضات الوصول الى حكومة مدنيه إلى ألإصرار على فرض الدمج الفوري لقوات الدعم السريع بالقوات السودانية المسلحه وهذه مهمة الحكومة المدنيه القادمه ، بينما الفريق حميدتي يركز جهوده على اظهار ان البرهان لا يريد تسليم السلطه للمدنيين وانه يناور فقط ، وقد وقَّعَ حميدتي على مبادرة الحل السياسي الإيطاري التي اشرفت عليها وأقرتها المكونات العسكرية والمدنيه وتنص على دمج قوات الدعم السريع وميليشيات الحركات المسلحه في القوات المسلحه السودانيه وبالتدريج خلال مدة ( ١٠ ) سنوات ، كذلك تضمنت فقرات "الاتفاق الإطاري" تسليم السلطه للمدنيين على المستوى السيادي والتنفيذي والتشريعي والإستخباري وان تخرج القوات المسلحه من السياسة والإقتصاد والإستثمارات وتعود الى ثكناتها ومهمتها الأساسيه وهي الدفاع عن البلاد ضد اي تهديد خارجي ، وقد أيدت المبادره كل من قيادة الجيش وقيادة الدعم السريع وقوى الحريه والتغيير "المجلس "المركزي " وجماعة المؤتمر الشعبي ، بينما رفضتها الكتلة الديمقراطيه ، الحزب الشيوعي ، و التيار الإسلامي العريض ، ورفضها كذلك تجمع المهنيين الأساسي ، والحزب الإتحادي الديمقراطي وحركات مسلحه موقعه على اتفاق "جوبا " إضافة الى عدد كبير من لجان المقاومه الشعبيه التي تقود مظاهرات الشارع . يقول المعارضون للحرب بأن الجنرالين اللذان فجرا هذه الحرب لم يحسبا عواقبها على الشعب السوداني والدول المجاوره ، فعلى الصعيد الاجتماعي في الخرطوم والشعبي في عموم السودان اعلنت الأمم المتحده وصول الأوضاع الإنسانيه الى درجة الإنهيار ، وبحسب تقارير المنظمات الإنسانيه زاد عدد القتلى عن ( ٦٠٠ ) قتيل بينما عدد المصابين يزيد عن ( ٢٠٠٠ ) مصاب ، وهناك شلل مؤثر في الأسواق والمصارف والحركة التجارية ووسائل التواصل الإجتماعي والنقل البري والجوي والبحري إضافة الى الخسائر الاقتصاديه حيث فقد السودان اكثر من ( ٥٪ الى ١٠ ٪ ) من وارداته وصادراته وفقد ثقة البنك الدولي والدول المانحه لتأمين القروض وفقد الإستثمار ودعم المجتمع الدولي السياسي والإقتصادي ، إضافة الى فقده خبراء التنميه الأجانب الذين تم اجلاؤهم ولن يعودوا . ووفقاً لما ذكرته المنظمات الإغاثيه الدولية ، فإن هناك اكثر من ( ٥٠ ) الف طفل يعانون من نقص الرعاية والغذاء و ما يزيد عن ( ٢٤ ) الف إمرأه حامل في مرحلة الولاده دون متابعة او رعايه ، وأكثر من ( ١,٤ ) مليون امرأة وفتاه معرضون للتنمر وللأمراض وضعف المناعه والانهيار النفسي وعلاوة على ما اشير اليه في الجوانب الصحيه فإن السودان حسب تقارير منظمة الصحه العالميه يحتاج الى ( ١١,٢ ) مليار دولار للتعافي ولمعالجات إنهيار القطاع الصحي والإنساني ، وقد اعلنت نقابة الأطباء السودانيه ان ( ٧٩ ٪ ) من المستشفيات في مناطق العمليات عاطلة عن العمل بينما تم قصف (١٣) مستشفى و اخلاء ( ١٩ ) مستشفى من العاملين بها وتشير الإحصائيات بأنه يوجد في السودان عدد (٨١ ) مستشفى رئيسي وخرج اكثرها من الخدمه أو تضاءلت خدماتها لأنها لا تستطيع أن تؤدي دورها بسبب انهيار النظام الصحي حسب ما ذكرته نقابة الأطباء السودانيه ، وتنطبق النتائج السلبية للحرب على التعليم بكل مراحله وقد اشارت التقارير الى احتجاز عدد من الطلاب في مدارسهم أو جامعاتهم وقتل بعضهم في بداية الإشتباكات . تقول صحيفة نيويورك تايمز إن المدنيين يفرون من مناطق القتال وان منهم من يريد اللجوء الى الدول المجاوره بسبب انعدام الأمن وقد اعلنت مصر عبور اكثر من (٥٠) الف سوداني حدودها وتشاد اعلنت ان (٢٠) الف دخلوا حدودها ، وتفيد الإحصائيات والتقارير المختلفه بأن هناك اكثر من مليون لاجئ في السودان قبل الحرب جنسية اكثرهم من جنوب السودان .. اما صحيفة الواشنطن بوست فذكرت ان الجسر الجوي والبحري لإجلاء الرعايا كان علامة مرعبه للسودانيين وأن ذلك يشير الى استمرار الحرب وفشل القوى الدوليه في حل النزاع وترك هذا البلد لمصيره المجهول ، وذكرت الصحيفه ان المعاناه مروعه لبلد يحتاج ثلث سكانه قبل الحرب الى مساعدات انسانيه واوضاعهم تترنح بين الكفاف المعيشي والفقر والجهل والمرض والمجاعة ! فكيف بأوضاعهم اثناء وبعد الحرب الأهليه الحاليه حيث تتفاقم المعاناه يوماً بعد يوم . لقد كانت السعوديه الدولة الوحيده التي ارسلت فرقاطاتها وسفنها العسكريه والمدنيه وأنشأت الجسور الجوية والبحريه بينها وبين السودان لإخراج من قصد سفارتها من رعياها ورعايا الدول العربية والأجنبيه حتى وصل عدد من تم اخراجهم الى اكثر من ( ٥٠٠٠ ) شخص من مختلف الجنسيات نقلوا على متن اكثر من (١٠٠ ) رحله جويه وبحريه نفذتها القوات المسلحة السعوديه إضافة الى استقبال وتسهيل وسائل نقل رعايا الدول الأخرى بكل مسمياتها من السودان الى ميناء جده الإسلامي والقواعد العسكرية الجوية والبحريه في مدينة جده ، وهنا يقول القائم بأعمال سفارة السودان في السعوديه مهند عمر عباس.." أقدم الشكر للسعوديه التي قامت بأعمال جليله بشأن توفير الخدمات والإيواء للعالقين من المعتمرين الذين لم يستطيعون العودة للسودان وكذلك في جهودها الكبيره لإخلاء رعايا الدول العربية والأجنبيه والمنظمات الدوليه من السودان وتقديم كل الخدمات لهم بما في ذلك نقلهم للسكن في الفنادق والمرضى والمصابين للمستشفيات ثم ترحيلهم الى بلدانهم " ، وأعلن مدير الجوازات السعوديه بأن التوجيهات صدرت من السلطات العليا بمنح من تم اجلاؤهم فيزة دخول فوريه وبدون مقابل ، ويلاحظ المراقبون بأن عمليات الإخلاء قد تسارعت لكون الأمم المتحده والدول التي لها بعثات ورعايا في السودان تريد الاسراع في اخراج رعاياها من السودان قبل استحالة اخراجهم بسلام . لقد كانت السعوديه الأكثر سرعة وبروزاً ونجاحاً بين كافة الدول في نقل اللاجئين وتقديم افضل الخدمات لهم دون مقابل ، وإضافة الى ما ذكر من خسائر السودان فإنه نتيجة لهذه الحرب برز المشروع القديم لتقسيم السودان الى دويلات وقد اوضح ذلك وزير الخارجيه الروسي "سيرجي لافروف " في مقابلة مع قناة العربيه التي نشرت في مساء يوم الثلاثاء ( ٢٥ ابريل ٢٠٢٣ م ) حيث قال" إن تقسيم السودان من اولويات امريكا " وهذا يذكرنا بمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي اعلنته وزيرة الخارجيه الأمريكيه السابقه " كونداليزا رايس " والذي يعني تقسيم المقسم وتجزأة المجزأ في العالم العربي والذي ترعاه امريكا وكان من نتائجه في الماضي ما سمي بالربيع العربي الذي هو في الحقيقة مشروع الخراب العربي .
إن من الخسائر الكبرى للشعب السوداني ما سوف يترتب على انهيار النظام الصحي والأمني والمصرفي والإقتصادي والغذائي والإداري واستنزاف وانهاك قوات السودان المسلحه وتشظي وانقسام القوى والأحزاب السياسيه وضياع الآمال بتحقيق المسار الديمقراطي الذي ينشده الشعب السوداني وقد قال المبعوث الأممي في السودان "فولكر بيرتس " اذا استمرت الحرب في السودان فستنضم جبهات القتال الثوريه والقبائل الى كلا الطرفين وهذا أمر خطير للغايه . وهنا تقول الدكتوره هويدا محمد عضو منظمة اطباء السودان من اجل حقوق الإنسان في مداخلة مع قناة العربيه بأن الشعب السوداني يموت بسبب الحرب ولكنه يموت اكثر بسبب فقدان الأمن وأمراض السكر والضغط والكلى والسرطان والانهيار النفسي والعصبي والخوف والجوع والتشرد بسبب انهيار أنظمة الاستقرار والنمو وفقدان الأمن والأمل .
إن من الأسباب التي ترشح قيام حرب اهلية طويلة الأمد في السودان هي ان الفسيفساء السودانيه تتكون من عدد ( 570 ) قبيله ، تنقسم إلى (57 ) مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية ، وتتحدث (114) لغة مكتوبة ومنطوقة ، ففي شماله يوجد العديد من القبائل مثل الحلفاويين، المحس ، الدناقلة ، البديرية ، الشايقية ، الزغاوه ، المناصير ، الرباطاب ، الحسانية ، والميرفاب وفي شرقه توجد قبائل البجا "قبيلة الهدندوة " والأمرار والبني عامر وقبيلة البشارية . والرشايده وفي غرب السودان نجد من أشهر قبائله البقارة، الهبانية، وأولاد راشد، وحزام، وأولاد حميد، والحوازمة بني سليم، والرزيقات، والتعايشة، وبني هلبة، والمسيرية، والفلاتا وغيرهم وهكذا في بقية المناطق والولايات . إن الكارثة المخيفه تكمن في احياء الثارات العرقيه والحساسيات بين تلك القبائل التي بدأ انفجار بعضها في دارفور بين القبائل العربيه والإفريقيه مما سيسبب الفوضى في كل البلاد لتؤدي الى انهيار الأمن القومي السوداني وهذه مدعاة لحدوث انقلاب عسكري جديد حيث سجل التاريخ بأن السودان قد تعرض الى (٥) انقلابات عسكريه بسبب الصراعات بين الأحزاب والقوى السياسيه والعسكريه والقبليه .
أما المواقف الإقليمية والدوليه فالأمل معقود على الدور السعودي والمصري ولا زالت مواقف الدول الكبرى ومجلس الأمن الدولي ضبابيه ولا يعول عليهم فالتاريخ قد سجل بأنها تدير الأزمات ولا تريد حلها ومواقفها والمعسكرين الدوليين الغربي والشرقي يراقبان بعضهما حتى لا يستحوذ اي منهما على السودان ، بينما يلاحظ المراقبون أن هناك جهود اقليميه لإنهاء النزاع تقودها السعوديه ومصر والإتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد ومبعوث الأمم المتحده ، وقد قدمت منظمة الإيقاد مبادره قبلها الطرفان تطالب الطرفين المتحاربين بالذهاب الى المفاوضات في بدلاً من فوهة البندقيه .
لقد بدأت المؤشرات المخيفه لحرب اهليه طويلة الأمد في السودان عندما اعلنت الشرطه السودانيه أن الدعم السريع قام باطلاق سراح السجناء في عدد (٦) سجون منها سجن الهدى في ام درمان و سجن كوبر في الخرطوم بحري والذي انشأه الإنجليز عام (١٩٠٣ ) وكان يضم الرئيس البشير وقادة جبهة الإنقاذ ومنهم احمد هارون ، نافع علي نافع ، عبدالرحيم محمد حسين ، علي عثمان طه و ابراهيم السنوسي . وتتخوف جميع القوى من عودة الإسلاميين الى الساحات السياسيه لخطورتهم على تلك القوى المتهمة بأنها لا تمثل الا نسب واعداد صغيره جداً من الشعب السوداني وانها كقوى شيوعيه وعلمانيه وليبراليه وعميله للأجنبي ليس لها ثقل سياسي او اجتماعي وانها تريد اقتلاع الإسلام من السودان وتزيل هويته العربيه الإسلاميه .
إن من أهم الدروس المستفاده " إن ما يحدث في السودان هو نتيجة طبيعيه لتشدد الاحزاب والطوئف المدنية المتناحره في مطالبها المختلفه ورفض قبول الآخر علي حساب استقرار الوضع الأمني والسياسي والعسكري المتردي داخل البلاد نتيجة المهاترات السياسيه والاضطرابات الأمنيه والمظاهرات المستمره وتعتقد هذه الكيانات المدنيه بأنها تضغط على القوات المسلحة السودانيه لإخراجها من المشهد ومتغافلين عن الحقيقة الحتميه بأن هذه المؤسسة العسكريه من الممكن أن تنقسم وتتشرذم في أي لحظه ( كما حدث ) نتيجة الصراع السياسي من أجل السلطه .. يقول الكاتب والمحلل السياسي السوداني عادل ابراهيم "الكل يتكلم باسم الشعب السوداني وانه يمثله ولكن لا يوجد اي حزب أو فئه تمثل الشعب السوداني " ويرى أن الحل هو العودة للشعب السوداني بانتخابات سليمه لاختيار ممثليه ودون اي اقصاء لأي فئة من الشعب السوداني . إن من المفارقات أن كل طرف يقاتل الآخر وشعاره " الله أكبر " .
اللواء الركن م / حسين محمد معلوي
قائد درع الجنوب سابقا

