الكاتب : النهار
التاريخ: ١٢:٥٣ م-٢٠ مايو-٢٠٢٤       19415

 بقلم/ د. شادي الكفارنة

بدأ نزوح الناس من أقصى شمال محافظات قطاع غزة، وبعدها النزوح المتدحرج ليمتد إلى باقي المحافظات عندما بدأت طبول الحرب تدق ناقوس الموت من أماكن سكناهم من كل فج عميق تحت تهديدات الإخلاءات والقصف الكثيف، وحملوا بعضًا من أمتعتهم التي يمكن حملها،  وتركوا ما يملكونه متبقيًا في مكانه، ومشوا في طوابير طويلة تحت وابل من القصف المتواصل، فكانت الإصابات والأموات، وسُمع أصوات مخلوطة بقوة دوي الانفجارات الممزوجة بصوت الإسعافات، والمتداخلة بين صمت الناس الذين يسيرون في الطرقات، والذين يخافون على مصير حياتهم، ويفكرون في النجاة أثناء سيرهم على الأقدام أو السيارات أو عربات الحيوانات أو يجرونها هم بأنفسهم دون حيوانات محملة بأمتعتهم، والذين لم يستطيعوا المشي مسافات طويلة من الأطفال وكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، إن طريقهم محملة بمخاطر  الموت، وإنهم منهكون من التعب متوترون من الخوف، مشتتو الأنظار خائفون من التيه في طابور  الموت بين الحشود من الناس التي تنتظر الموت في أي لحظة؛ للبحث عن أماكن يوجد فيها مدارس ومراكز صحية وتعليمية وغيرها مراكز  آمنة تصلح للإيواء للاحتماء فيها، ولكن خيبات الأمل كانت متلاحقة، كلما تشعر بأنك وصلت بر  الأمان وتنظر على بوابات هذه الأماكن تنصدم من عدد الحشود وتصاب بخيبة أمل جديدة ، وترجع لتكرار المحاولة للبحث عن طريق يؤدي إلى أماكن أخرى ليكون لك متسعًا يحوي من معك.

هكذا استمرت رحلة النزوح من مكان عذاب لمكان لآخر، ومن بؤس إلى ذل ومن قهر  إلى يأس ومن إحباط إلى خيبات أمل أخرى ، وكان النزوح لأكثر من مكان بناءً على تعليمات الإخلاءات من الشمال إلى الجنوب بحجة أنها الآمنة؛ ولكنها في الحقيقة غير آمنة تم انتهاكها بالقصف و بالاقتحامات والاعتقالات والتنكيل والقتل ، وكم كانت تكلفة كل رحلة من التنقل من مكان مملوء بالأموات إلى مكان آخر يصاحبك فيه الخطر مع الموت والمجازفة بمن معك واللعب بحظ المقامرة و التراقص مع الموت لتغريه وتبعده عن زمرتك وأنت متنقل من مكان لآخر، وبعد كل المحاولات التي تنقلناها لأكثر من أربع مرات ، في كل مرة بدأت كل محطة بعدة أيام ثم جاءت تعليمات جديدة بالإخلاءات لتكون أسابيع ثم شهور وهكذا استمر ت رحلات النزوح، امتدت من فصل الخريف وحتى فصل الربيع ويمكن  أن نكرر فصول السنة في النزوح، و تستقر في النهاية من تعب التنقل والخوف من مخاطر النزوح في خيمة على سور المدرسة الخلفي على الرمل المثقل بمياه الصرف الصحي والمخلوط بمياه الأمطار التي تسيل من كل فتحة في أنحاء الخيمة، فمن كان له فصل دراسي داخل مبنى سور المدرسة يكون غنيًا من سادة النازحين ومن طبقة البرجوازيين، مقارنة بخيم التجمعات السكانيّة غير المنظمة وأماكن النزوح  عشوائية المساكن في الشوارع والمحلات التجارية وغيرها، وقد لا تكون آخر محطة للنزوح، فقد تتكرر مرارة النزوح مرات عديدة في أي لحظة، والتي دفعت آلاف الغزيين للوصول إلى مرحلة الهجرة خارج الوطن للنجاة بالنفس وما تبقى من مال وولد. 

أخيرًا.. نحب الحياة ونعشق السلام ونعانق الحرية، ونكره المعتدي ونضحي لأجل الوطن لا من أجل مصالح الانتماءات الحزبيّة الضيقة، فلتحيوا وتكونوا بخير.