الكاتب : النهار السعودية
التاريخ: ٠١:٠٧ م-١٨ نوفمبر-٢٠٢٣       39985

 حاوره - الكاتب محمد سعيد الحارثي

الشاعر عبدالله بيلا هو ابن مكة البار الذي نشأ وترعرع فيها وفي بيئة أسرية دينية، جعلت من المقدس هو المقوم الأساسي له في انطلاقته الشعرية، وساعدت في تكوينه اللغوي من حفظ القرآن، ودراسة السيرة النبوية العطرة في سن مبكر، بدراسة متون اللغة العربية ببلاغتها وشاعريتها وحُسن بيانها، حينها وجد نفسه وهو في مرحلة مبكرة من عمره يقرض الشعر.

إضافة للمناخ الثقافي والأدبي بهذه المدينة هو كان أكبر مؤثر ومحفز له، حين يقرأ ويسمع بأنها مدينة الشعراء والأدباء الرواد في الشعر التقليدي، ومن الذين برعوا فيه مثل الغزاوي والفودة وحسين عرب وحسين سرحان، وغيرهم من الأسماء.

وكانت هذه الحياة البانورامية هي من حفزت هذا الشاعر، وجعلت من لغته الشعرية بصورها جميلة، والشاعر عبدالله نحى بشاعريته عن التقليدي للحديث، في وقت اخذ هذا الشعر مكانته في السعودية منذ منتصف السبعينات إلى العقدين الذي يليه، مع جيل من العمالقة في هذه المدرسة الشعرية الجديدة على بيئة الجزيرة العربية موطن الشعر القديم منذ العصر الجاهلي.

فكانت هناك نماذج تمثل للشاعر الخطى في مسيرته مع الشعر الحديث، مثل محمد الثبيتي وعلي الدميني و الصيخان ومحمد جبرالحربي، وغيرهم من الشعراء حينها تأثر بهؤلاء وبهذا الشعر، الذي وجد لنفسه فيه مساحة للإبداع وهذا ما كان له، فبرع في كتابة شعر التفعيلة أو ما يطلق عليه بالحر، فكتب أجمل النصوص وزاد لمعان شعره حين صقله بدراساته العليا في الأدب العربي بنقده وبلاغته.

فصدر له أربع مجموعات شعرية من "تأويل ترابية " و "صباحٌ مرمّمٌ بالنجوم" و "سفرٌ إلى الجسد الآخر" وآخرها كانت العام الماضي 2022 بعنوان "أربع وعشرون ذاكرة لقصيدة واحدة".

وشارك في العديد من المهرجانات والمسابقات الشعرية داخل الوطن وخارجه، وحاز على العديد من الجوائز، وحظي بإشادة لجان التحكيم والنقاد بشاعريته الخصبة، وشاعرنا كانت دراسته بجميع المراحل من نعومة أظافره بدار الحديث المكي، حتى حصل الشهادة الجامعية منه، ذلك الصرح الشامخ العريق.

وبعدها أكمل دراساته العليا وحصل فيها على شهادة الماجستير من جامعة المدينة العالمية بماليزيا عام 2013م، وعلى شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة في الأدب والنقد العربي الفني في عام 2018م.

 فيسعدنا بصحيفة النهار السعودية أن نستضيف هذا الشاعر الجميل بإنتاجه الشعري والجميل بروحة المتفائلة بما هو أجمل، والذي لبى دعوتنا بكل أريحية منه لنطرح عليه اسئلتنا، ونخوض معه في شعر التفعيلة، وكيف اتجه لهذا النوع من الشعر الذي لم تعهده الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية، منذ عهد الرواد في حركة الشعر لدينا، وكيف كان يرى تأثير هذا الشعر على نفسه، وعلى الحياة الثقافية بالمملكة.

كذلك نسأله عن تاريخ نشأة الشعر الحر، ومن هم رواده الحقيقيين بالعالم العربي بعد جدل حول هذه النشأة، وهل الحداثة في أوروبا أثرت في هذا الاتجاه لرواده، وغيرها من الأسئلة التي ربما تخرج عن السؤال التقليدي، فإلى الحوار:

بداية.. المناخ الديني في مراحلكم الأولى أسريا ودراسيا من حفظ القرآن وتجويده ودراستكم لمتون اللغة العربية بمدرسة دار الحديث المكية السؤال.

س١ هل ساعد هذا المناخ في اكتشاف موهبتكم في الشعر؟

*أظن أننا جميعاً في المحصلة الأخيرة نتاجُ العوامل المشتركة التي تضافرت معاً لتكوين نشأتنا ومعارفنا المختلفة، ونتاج تلك البيئات المختلفة التي حقنتنا بأخلاقياتها وسلوكياتها، وكل ما سبق قد أسهم في تشكيل موهبة الشعر عندي ابتداءً، وأطلق لساني ليكون قادراً على التعبير عما يختلج بالنفس، إضافة إلى خلق وعيي الفطري بالشعر كأسلوب من أساليبِ البوحِ العالي الشفيف، وأظل مديناً لأستاذتي الذين تفضلوا علي في جميع المراحل التعليمية بالتعليم والتأديب والتوعية.

شعر التفعيلة اقتحم أسوار التقليدي الذي لم تعرف العرب غيره من فنون وأجناس أدبية منذ أكثر من ١٥٠٠ عام إذا أخذنا في الحسبان العصر الجاهلي كمرحلة زمنية .

س٢ كيف استطاع هذا الفن من الشعر أن ينتشر ويلقى هذا القبول في بيئة ليست بيئته؟

*القصيدة هي في شكلها وفكرتها تمثل بيئةً إبداعيةً خاصة، لذلك أظن أنّها تتعالى عن أن تكون رهينةً لبيئةٍ مادية ما، ولأنَّ الشعر ككل الأدوات الإبداعية الإنسانية الأخرى، عرضة للتلاقح بغيره من الفنون، والاحتكاك بتجارب الأمم المختلفة الأخرى، كان مصيره الحتمي أن يسير في ركب التطور شكلاً ومعنى، وشعر التفعيلة هو أحد أشكال التطور الشعري من حيث الكتابة وليس آخرها طبعا، أظن أن تطور الشكل الكتابي في القصيدة هو رسالة وجودية تقول بشكل غير مباشر إنَّ المحاولة والتطور والخروج من الجمود هو قدَرُ الإنسان الذي لا مفر منه.

شعر التفعيلة عصفت به عواصف من تيارين التيار الأول الأدبي بزعامة الأديب العربي الكبير العقاد والذي تصدى لعدم الاعتراف بشرعيته لأنه يراه دخيلاً على ديوان العرب والتيار الآخر الديني لدينا بالسعودية تحديدا تيار الصحوة الذي حاربه بشراسة ومع ذلك صمد هذا الشعر في وجه هذه العواصف وأصبح له قاعدة جماهيرية كبيرة في كل قطر عربي .

س٣ ما هو السبب في رأيكم في صموده؟  

*عادة الإنسان البسيط النفور مبدئياً من كل ما هو حديث وصادم لما اعتاده، خاصة عندما يكون هذا الشيء الحديث ضارباً في جذور شجرةٍ عتيقةٍ تجاوز عمرها القرن والنصف، لذا لم يكن موقف العقاد والكثير من شعراء ومبدعي ذلك الزمن وما تلاه من قصيدة التفعيلة أو  الشعر الحر  كما كان يسمى ابتداءً، لم يكن موقفاً غريبا، إذا استدعينا هذا الإرث الشعري الهائل الذي حفظته الذائقة العربية على النمط العمودي عشراتِ القرون، وآفة كل فنٍ هو التطرف في الرأي، وقد خرج من بين مبدعي النص الحديث من حاول الازدراء بالشعر العمودي كله، مدعياً أنه قد خرج من عهدةِ الإبداع المعاصر، وأنّه لم يعد قادراً على التعبير بلسانِ إنسان القرن العشرين، وهذا بلا شك تطرفٌ يفضي إلى تطرفٍ وتعنّتٍ في الجهة الأخرى، أظن أنَّ شعر التفعيلة قد احتاج إلى زمن ليس بالطويل ليثبت وجوده وقدرته على منافسة الشعر العمودي، تنافساً جمالياً لا إلغائي، بحداثته الشكلية وجرأتهِ ورمزيته وتوسيع وتعميق مدى الأفكار التي تناولها وقدرته على خلق لغةٍ ميَّزته بجمالياتها وسحرها عن الشعر العمودي، ما حدا بالكثير من الأسماء الإبداعية التي ظهرت في أواسط القرن الماضي إلى أن تؤسس للنص الحديث الذي استطاع أن يتوفر بعد ذلك على كل أسباب الصمودِ، وربما الخلود.

قرأت لكم نصوص جميلة مثل قصيدة "اخر وصايا الحب" وغيرها من القصائد ووجدت في نصوصكم صوراً جميلة ونزعة فلسفية .

س٤ كيف تستلهم هذه الصور الممزوجة بالعمق الفلسفي؟

*أشكر لك هذه الالتفاتة، وأظن أنَّ الحياة بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة هي ميدانٌ للتساؤل وإعمال العقل، وكلما تفحَّصنا الحياة ودقّقنا النظر فيها تجلَّت لنا عن أفكار وصور ورموز ورسائل فلسفية لا حصر لها، ما يحدث عندي في القصيدة أحياناً هو مجرد محادثة بسيطة بين القصيدة وكاتبها وحسب، وحين أحب أن يشاركني أحدٌ ما هذه المحادثة أقوم بنشر القصيدة.

س٥ لماذا حين تأخذ القصيدة مسحة التصوف في معانيها تكون أكثر تأثيرا من التي تخلو منها هذه الميزة؟

*لا يمكن إطلاق هذا الحكم بشكل جازم، كل نص شعري لديه أدواته وطرائقه التي يمكنه من خلالها أن يصل إلى القارئ ويؤثر فيه، وقد يصح هذا الاستنتاج في سؤالكم حين يكون القارئ منجذباً إلى العوالم الغيبية الأسطورية والرموز والإحالات الدينية، ولا أحسبُ أنَّ كل القراء يؤثِرونَ هذا الجانب على ما سواه.

س٦ على الرغم من جمال نصوصكم وشاعريتكم الجزلة لكنني أرى لم يكن لكم حضوركم اللافت في المناسبات الثقافية المتعددة توازي قوة وجزالة شعركم ما السبب في ذلك؟

*أشكر لك ما أحسبه حسن ظنٍ منك بما أكتب، ولكني حين أضع نصي الشعري على المقياس البلاغي سأخرج بأنه نصٌ متخفف من الجزالة إلى حدٍ بعيد، وهذا التخفيف عندي آخذٌ في الاستمرار، ومع ذلك أزعم أنني قد حظيتُ بحضورٍ لا بأس به مقارنةً بالكثير من الأسماء الشعرية الكبيرة التي تستحق حضوراً أكبر واحتفاءً أكثر بها وبتجاربها، ولذا فإني بحق راضٍ تمام الرضا عن مساحة الحضور التي حظيت بها.

هناك من يرى من النقاد بأن سبب وجود  الشعر الحر  بالعراق وجود عمالقة كبار في الشعر العامودي مثل الجواهري ومعروف الرصافي وجميل الزهاوي أوجد هذا الشعر لينحو به مؤسسوه عن التقليدي ورموزه وهذا يقودني لسؤالين لاستجلاء الحقيقة . 

س٧ ما مدى صحة هذا القول من عدمه؟

*لا تبدو على هذا القول أماراتُ الصحة، ويبدو الربطُ الزمني بين ظهور شعر التفعيلة ووجود حركةٍ شعرية كلاسيكيةٍ قوية في العراق –في رأيي- ربطاً متكلفاً فيه، إذ لم تكن الأسماء الشعرية الكبيرة موجودة في العراق وحسب في ذلك الزمن فقد كانت حاضرةً في جل الوطن العربي، وتكفي الإشارة إلى اسم شاعرٍ كبير كـ"بدوي الجبل" لحسم هذا التساؤل، والمنطقي عندي هو أن يزداد الإقبال على شكل الكتابة الشعرية كلما اتسع حضورها في الساحة، وأفرزت أسماءَ شعريةً لامعة، لا أن يخرج لها منافسون بشكلٍ آخر مغاير لها.

س 8 وهل كان لظهور الحداثة في أوروبا في الأدب وخصوصا الأدب الإنجليزي تأثيرٌ على رواد  الشعر الحر  العرب وخصوصا بأن جلهم من العراق؟

*ثقافة الشاعر وعلومه ومعارفه تؤثر بلا شك في كتابته، وقد تأثر شعراء الحداثة الشعرية العربية بلا شك بمخزونهم القرائي، واطلعوا على جل التجارب الشعرية والنقدية الغربية بشكل عام خاصة الآداب الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وكان جلهم يجيد إضافةً إلى العربية لغةً أخرى أو أكثر، وقد استفادوا بلا شك من حركة الترجمة الكبيرة للآداب الغربية وخاصة الشعر، مع الإشارة إلى أنَّ شعراء مدرستي الإحياء والديوان قد كان لهم أيضا اطلاعٌ واسعٌ على تلك التجارب الغربية.

س9 يوجد لدينا ظاهرتان من شعراء التفعيلة وهما بدر شاكر السياب بالعراق ومحمد الثبيتي في المملكة العربية السعودية فالأول طغى شعره على الوطن العربي، والآخر كون قاعدة جماهيرية كبيرة على مستوى السعودية والجزيرة العربية فلما تعزون هذه الحالة؟

*تجربة السياب أقدم طبعاً من تجربة الثبيتي، وهو رائد من رواد شعر التفعيلة، أي أنه أصبح من المراجع المهمة في كتابة الشعر التفعيلي، لذا ليس مستغرباً حضوره العربي كرمزٍ إبداعيٍ شعريٍ تجديدي، كان له نضاله السياسي التحرري، مع إتقانه للغة الإنجليزية وترجمته بعض الأعمال الشعرية المهمة إلى العربية، والظروف السياسية المهمة التي اتسمت بها مرحلة الستينات والسبعينات في القرن الماضي، وقد استطاع السياب أن يجعل من نصه وجعاً إنسانياً وعربياً عاماً، خارجاً بهذا من حدود ذاته الضيقة، كل هذه العوامل المهمة وأولها إبداع السياب المتفرد، هو من جعله حاضراً في العالم العربي بشعره وسيرته، وتأتي تجربة الثبيتي في الثمانينات لتأخذ شكلها ولغتها وتضاريسها الخاصة، وتحتكم إلى ظروفٍ اجتماعية ودينية خاصة، جعلتها وغيرها من تجارب مبدعي تلك الحقبة ميداناً لصراعٍ مضنٍ، بين الحداثة وخصومها، ولكنَّ تجربة الثبيتي قاومت وحاولت الظهور في مساحتها المحلية الضئيلة واستغرقت زمناً طويلاً قبل أن يتهيأ لها السبيل للخروجِ من نطاق محليتها إلى محيطها العربي الواسع.

س10 الناقد الأدبي سعيد السريحي قال في إحدى حواراته التلفزيونية "نحن انتظرنا ألف عام لكي يأتي الشاعر محمد الثبيتي وقد يأتي ألف عام آخر و لا نجد مثل هذا الشاعر" ما هو رأيكم فيما قاله هذا الناقد الحصيف ؟  

*الناقد الأديب سعيد السريحي يدرك تماماً ما يقول، وهو أحد أقرب الأشخاص إلى تجربة محمد الثبيتي الحياتية والشعرية، ومع أني لا أحبذ الآراء النقدية العابرة إلى المستقبل، ولكنني أحترم هذا الرأي، وأظن أنَّ المستقبل الشعري سيكون مزدهراً أكثر وأننا موعودون دائماً بالمفاجآت الإبداعية.

س11 هناك نماذج من نصوصك الشعرية يظهر فيها تأثرك بشاعرين عظيمين الفيتوري والثبيتي وهما من الأسماء التي برعت في  الشعر الحر  حدثني عن هذا التأثر لديك؟

*كل تجربة جميلة، بل كل نص جميل يؤثر بلا شك، قد يكون الأثر مضمراً في الكثير من الحالات، وقد تأثرت بكل الأسماء الشعرية التي قرأت لها، وتجربة الشاعرين الفيتوري والثبيتي من أهم التجارب التي قرأتها مقرونة في شقيها الإبداعي والإنساني الذي ميّز حياتيهما.

س12 ألا ترى بأن وجود شعر التفعيلة برموزه في الوطن العربي لم يعطِ شعر النثر مساحة من الانتشار أكثر ؟

*أظن أنَّ الكثير من الأوساط الأدبية قد تجاوزت إشكالية تجاور الأشكال الشعرية "عموداً وتفعيلةً ونثرا"، ولم يعد النقاش قائماً حول شرعية وجود هذا الشكل الشعري الأخير، بنفس الوتيرة التي كان عليها قبل نصف قرنٍ من الآن، وعلى عكس ما يفترضه السؤال هنا أظن أنَّ شعر التفعيلة كان هو الخطوة الأهم التي سمحت لقصيدة النثر أن تخطو للأمام، لأنَّ التطور هو محض جرأةٍ محمودة، وهذا ما فعله شعر التفعيلة، ولولا وجود النص التفعيلي لما تهيأت البيئة الشعرية لشعر النثر.

س13 كيف ترون مستقبل  الشعر الحر  في الوطن العربي وفي السعودية؟

*لا يمكن الجزم بمستقبل أيِّ شكلٍ من الأشكال الشعرية، ولكني متفائلٌ بأنَّ الشعر بخير وسيكون بخير وإلى خير ما بقي الإنسان، وهناك الكثير من الأسماء الإبداعية السعودية الشابة التي ارتسمت لتجربتها طريقةً إبداعيةً حديثة، تبشر بمستقبل مشرق للإبداع الشعري الحديث في السعودية، والإبداع الإنساني بشكل عام.

وفي الختام نشكر لكم دكتور عبدالله إتاحة الفرصة لنا بصحيفة النهار السعودية لعمل هذا الحوار الماتع معكم وكرمكم ولطفكم معنا وهل لكم من كلمة توجه لهذه الصحيفة

*أشكر لكم هذا الحوار الكريم، وأرجو أن يكون فيه ما يفيد وينفع.