النهار
بقلم - سلمان المشلحي
في زمنٍ كنا نسافر فيه بخيالنا أكثر مما نسافر على الأرض، أخذتنا روايات “أجاثا كريستي” إلى عوالمٍ تنبض بالأسرار والغموض، حيث تدور أحداثها بين مقصورات “قطار الشرق السريع” و“القطار الأزرق”، وتتشابك فيها الأصوات والوجوه والدهشة في مشهدٍ لا يُنسى، كانت تلك القطارات بالنسبة لنا رموزاً للجمال والمغامرة، وحلماً بعيد المنال في عالمٍ يُسافر فيه الناس بالحكايات قبل أن يسافروا بالمحطات.
أما اليوم… فنحن في المملكة العربية السعودية نعيش فصلاً مختلفاً تماماً من تلك الحكاية، فصلاً نكتبه بأنفسنا على أرض الواقع، حيث أصبحت القطارات السريعة جزءاً من تفاصيل حياتنا اليومية، لا مشاهد في رواية.
قطارات الحرمين، والشمال، والشرق، تشق المسافات الشاسعة بسرعاتٍ مذهلة وأناقةٍ مبهرة، ناقلةً ملايين الركاب بكل راحةٍ وأمان، لترسم صورةً حديثة لبلادٍ تمضي بخطى ثابتة نحو مستقبلٍ تتزيّن فيه السكك الحديدية كأحد أعمدة التنمية الوطنية وركائز الاقتصاد الحديث.
فالمشاريع العملاقة التي تشهدها المملكة اليوم ليست مجرد خطوط تربط مدناً ببعضها، بل شرايين تنقل الحياة والتنمية والازدهار، إذ تعمل قيادتنا الحكيمة على مضاعفة طول الشبكة الحديدية وربط شرق المملكة بغربها عبر “الجسر البري”، وتتكامل مع مشروع “الربط الخليجي” لتجعل من المملكة قلب شبكة المواصلات في الخليج والعالم العربي.
إنها ليست سككاً لنقل الركاب فحسب، بل مسارات ذكية للاقتصاد واللوجستيات، تمكّن المملكة من ترسيخ مكانتها مركزاً عالمياً يربط القارات الثلاث، في ظل رؤيةٍ طموحة تسعى لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، وضخ أكثر من ثمانية تريليونات ريال لدعم الاقتصاد غير النفطي.
ولأن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه، فقد حرصت المملكة على إشراك القطاع الخاص في مشاريع السكك الحديدية، بهيكلٍ استثماري جاذب يخلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة، ويفتح آفاقاً جديدة للنمو الاجتماعي والاقتصادي في المدن والقرى التي ستنعم بخدمات هذه الشبكات الحديثة.
وقد تجاوز عدد مستخدمي القطارات في المملكة أكثر من 42 مليون راكب في عام 2024، بزيادة تفوق 40% عن العام الذي سبقه، فيما ارتفع عدد الرحلات بين المدن إلى أكثر من 11 مليون رحلة، وفقاً لإحصاءات الهيئة العامة للنقل، في مؤشرٍ واضح على التطور المتسارع في ثقافة النقل الحديث.
وتُعد قطارات الحرمين والشمال والشرق من أبرز الشواهد على التحول النوعي الذي يشهده قطاع النقل السككي في بلادنا، بما توفره من سرعةٍ ورفاهيةٍ وأمانٍ في بيئة تضاهي أرقى خطوط القطارات في العالم.
إن هذه المشاريع ليست مجرد وسائل نقل متطورة، بل جزء من رؤية المملكة 2030، التي ترسم ملامح وطنٍ متجددٍ يربط أطرافه المترامية، ويوحّد إيقاعه الاقتصادي والاجتماعي في مسيرة تنموية لا تعرف التوقف، لتُرسّخ مكانة المملكة كمركز لوجستي عالمي.
وما بين “قطار الشرق” الذي ألهم خيال الأدباء، و“القطار السعودي” الذي يبهر الواقع، تمتد الحكاية…
حكاية وطنٍ يسير على السكة، لا نحو محطةٍ ختامية، بل نحو مستقبلٍ لا حدود له.