النهار
بقلم: علي بن عيضة المالكي
لم يعد الفقر اليوم مادّيًا فحسب، لقد أصبح فقرًا في العمق، في الفكرة، في المضمون. صارت الكلمات تُنتج بغزارة، لكنّها تفتقد المعنى. نكتب كثيرًا، ونتحدث بإفراط، ونعلّق بتزايد، لكننا قلّما نفكر.
تسود البلاغة السطحية على حساب الفكر المتين، ويُستبدل التحليل بالمشاعر اللحظية، والجوهر بالمظهر.
هذا الزمن عجيب، تتكاثر فيه المنابر وتضجّ الأصوات، يطلّ علينا وجهان متلاصقان؛ أحدهما خاوٍ من الفكرة، والآخر متخم بالمديح الزائف. كلاهما يقتات على الوهم: فقر المحتوى والتملق الزائف، توأمان في زمنٍ ضاعت فيه البوصلة بين القيمة والصدى.
مع الأسف وأثناء تصفحي لإحدى المنصات الإلكترونية، قرأت خبرًا لأحد المشاهير يبارك لأحد التجار شراء أرض بقيمة باهضة الثمن، لا أعلم ما المقصود من هكذا خبر يقوم صاحبه بنشره على منصة رسمية! نؤمن أن حرية الرأي لها مساحتها ، ولها مكانها ، لكن أن تصل الأمور إلى حد المباركة على شراء أرض غالية الثمن لأغراض غير مفهومه يكاد الأمر يخرج عن سيطرة العقل والمنطق ، شيء ما يتحرك نحو تفريغ الفكر من المحتوى الهادف، وكأن الجميع متجهون إلى تسطيح العقل. هناك أمور تحدث تنبئ بمستقبل غير محمود خاصة عند طرح الأفكار، وكأن غالبية المشاهير يعجزون عن تقديم قيمة للمجتمع.
فبدلاً من أن نحتفي بشراء أحد التجار لأرض أو قصر أو حتى جزيرة عائمة على سطح البحر ونستغل حساباتنا الشخصية للتبجيل والمفاخرة بهم، أليس من الأفضل أن نضع مساحات نعالج فيها القضايا العالقة كغلاء الأراضي ونطرح الحلول المناسبة ونساعد في إظهار الحقائق!
فقر المحتوى ليس نقصًا في اللغة، بيد أنه نقص في الصدق والمعرفة والرؤية. إنه عجز عن تقديم قيمة تضيف، أو فكرة تهزّ، أو سؤال يوقظ.
تصحر المحتوى هو ضحالة في طرح الفكرة وضعف العمق، حيث يغيب الجوهر لتحل محله المظاهر اللفظية أو التكرار الفارغ. يصبح الحديث كثيرًا، لكنه بلا معنى. مقالات، خطابات، أو منشورات تفتقر إلى الفكر، التحليل، أو الإضافة الحقيقية.
أما التملق الزائف فهو الوجه الآخر للعملة؛ صوتٌ يزيّن السطح ويُطري الرداءة، يخاف أن يزعج أو يعارض أو يُفكّر. إنه فنّ الهروب من الحقيقة عبر مدحٍ متقن، ودهانٍ من الكلمات اللطيفة التي تخفي خواء المعنى.
يتسلّل التملق إلى كل شيء: إلى المنابر، وإلى المؤسسات، وحتى إلى الفضاءات الثقافية. يصبح النجاح رهين الرضا وليست الفكرة، ويغدو الرأي صدىً لمن يُعجب لا لمن يُقنع.
حين يتصالح فقر المحتوى مع التملق الزائف، تولد بيئة خانقة تُقصي الجدارة وتُكرّم الزيف. يُهمَّش المفكر الصادق لأنه لا يُجامل، ويُحتفى بالمقلّد لأنه يُرضي. وهكذا يتراجع الفكر الحقيقي، وتُصاب الثقافة بالركود، وتفقد المجتمعات بوصلة التطور.
إن الخطر لا يكمن في أن نكون فقراء المحتوى، الخطر الحقيقي في أن نرضى بالفقر ونزخرفه. فالمديح لا يصنع قيمة، والمجاملات لا تُنبت فكرًا. وحده الصدق في القول والفكر كفيل بأن يبعث الحياة في الكلمة، ويعيد الهيبة للمعنى.
وفي نهاية المطاف، سيبقى الزمن منصفًا؛ فالأصوات التي بُنيت على التملق تذوب مع أول ضوء صدق،
بينما تبقى الكلمات النابعة من فكرٍ حرّ كالنجوم لا تُرى في الزحام، لكنها تهدي في الظلام.