النهار
بقلم - الدكتور م. معجب بن عبدالرحمن العضياني
تواجه حاليا مدينة كوربوس كريستي في ولاية تكساس بالولايات المتحدة الامريكية أزمة مائية كبيرة تهدد مستقبلها الصناعي والاقتصادي في ضل التغيرات المناخية. حيث تعد هذه المدينة مركزا أساسيا لطاقة، وقد تم في الفترة الماضية اعتماد مشروع مركز الطاقة الضخم والذي تُقدّر قيمته بحوالي 57 مليار دولار في المنطقة الساحلية. هذه الأزمة تُعد واحدة من أبرز التحديات البيئية والاقتصادية في الولاية حالياً، لما لها من تأثير مباشر على إمدادات المياه الضرورية لتشغيل المنشآت الصناعية ومحطات الطاقة والمصافي النفطية.
خلفية الأزمة
تعتمد كوربوس كريستي بشكل رئيسي على خزان شوك كانيون (Choke Canyon) وبحيرة كوربوس كريستي (Lake Corpus Christi) كمصدرين رئيسيين للمياه السطحية. ومع استمرار الجفاف الحاد الذي يضرب جنوب تكساس، انخفضت مستويات المياه في هذين المصدرين إلى مستويات حرجة، ما دفع السلطات المحلية للتحذير من احتمال نفاد المياه خلال أقل من عامين إذا لم يتم إيجاد حلول عاجلة ومستدامة.
عملت المدينة على التخطيط لإنشاء محطة تحلية من مياه البحر تُعرف باسم Inner Harbor Desalination Plant بتكلفة تُقدّر بنحو 1.2 مليار دولار لتأمين وتغطية الإمدادات الإضافية من المياه المحلاة ودعم التوسع المتسارع في القطاع الصناعي في المدينة، إلا أن المشروع توقّف بشكل مفاجئ وذلك بعد تصويت المجلس البلدي ضد استمراره، نتيجة مخاوف بيئية وتكاليف مالية كبيرة، مما أعاد المدينة إلى نقطة الصفر في خطتها المائية وفقا لصحيفة هيوستن كرونيكل.
تأثير الأزمة على مشروع مركز الطاقة الضخم
تُعتبر مدينة كوربوس كريستي مركزاً رئيسياً لصناعة والطاقة على ساحل خليج المكسيك، حيث تستضيف منشآت ضخمة لتكرير النفط، وتصدير الغاز الطبيعي المسال (LNG)، والصناعات البتروكيماوية المتقدمة. والتي تعتمد بشكل كبير على المياه في عمليات الصناعية والتبريد والمعالجة والتكرير وإنتاج البخار، ما يجعلها من أكثر القطاعات حساسية لأي اضطرابات في امدادات المياه.
كان الهدف من هذا المشروع العملاق والذي قدرت قيمته ب 57 مليار دولار توسعة منشآت النفط والغاز، إضافة إلى مشاريع تحويل الطاقة المتجددة وتخزين الكربون. إلا أن إيقاف تنفيذ مشروع محطة التحلية والتي كان من المفترض ان تغطى الاحتياجات من المياه يُهدد بتعطيل أو تأجيل هذه الاستثمارات الكبرى، إذ لا يمكن للمستثمرين المضي قدماً في هذا المشروع دون ضمان استمرار إمدادات المياه.
وقد بدأت بعض الشركات بالفعل في مراجعة خططها الاستثمارية، بينما حذر محللون من أن الأزمة قد تؤدي إلى خفض التصنيف الائتماني للمدينة بسبب أخطار تمويل مشاريعها المائية المؤجلة، مما سيزيد من تكلفة القروض البلدية ويؤثر على ثقة المستثمرين المحليين والدوليين وفقا لجريدة كالر تايمز.
تأثير الازمة على الجوانب المالية والبيئية
رغم توقف مشروع محطة تحلية المياه الا ان المدينة ما زالت تتحمل أعباء مالية كبيرة، إذ سبق أن حصلت على قرض بقيمة 231 مليون دولار لتمويل المشروع، إضافة إلى 136 مليون دولار فوائد، ما يمثل عبئاً على الميزانية العامة وقد ينعكس هذا التأثير على رسوم المياه للمستهلكين والمصانع.
أما من الناحية البيئية فإن المدينة تواجه تحديات كبيرة مع جماعات حماية البيئة التي أعربت عن قلقها من تأثير مشاريع تحلية مياه البحر على النظام البيئي البحري، خصوصاً في خليج المكسيك إذ أن تصريف مياه الرجيع المالحة قد تسبب أضرار بالكائنات البحرية والزيادة من ملوحة الشواطئ اذا ما تم تحديد موقع التصريف بشكل امن.
الأبعاد الاستراتيجية للأزمة
ما يحدث في كوربوس كريستي ليس مجرد أزمة محلية لا تتجاوز حدود الولاية، بل قد تشكل نموذج عالمي لتحول العلاقة بين المياه والطاقة في ظل التغيرات المناخية. فالولايات المتحدة الامريكية مثله مثل العديد من الدول الصناعية و التي تشهد تزايداً في الطلب على الطاقة، في الوقت الذي تتراجع فيه كفاءة الموارد المائية وهذا التناقض يفرض تحديات جديدة على السياسات العامة ويجبر الحكومات على إعادة النظر في إدارة المياه كمورد استراتيجي للأمن الاقتصادي.
الحلول المستدامة لتخفيف من هذه الأزمة يتطلب نهجاً شاملا وفقا لتالي:
- تسريع مشاريع تحلية المياه بتقنيات أكثر كفاءة واستدامة.
- إعادة استخدام المياه المعالجة في الأغراض الصناعية.
- تحسين كفاءة استهلاك المياه في جميع القطاعات.
- تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان التمويل المستدام للبنية التحتية المائية.
- اعتماد سياسات تسعير مائي مرن (shadow pricing) لتشجيع الاستخدام الرشيد وتوزيع الموارد بعدالة.
وفي الختام تواجه كوربوس كريستي مفترق طرق حاسماً إما أن تُسرّع خطواتها نحو تأمين مصادر مياه مستدامة تضمن استمرار مشاريع الطاقة الضخمة، وإما أن تخاطر بخسارة واحدة من أكبر فرص الاستثمار الصناعي في تاريخ تكساس.
إن الأزمة المائية الراهنة ليست مجرد تحدٍ بيئي، بل تهديدا اقتصاديا واستراتيجيا يختبر قدرة المدينة والولاية والعالم بشكل اجمع على تحقيق التوازن بين التنمية الصناعية واستدامة الموارد الطبيعية في عصر تتزايد و تتسارع فيه التغيرات المناخية والاقتصادية.
عن الكاتب: مستشار هندسة واقتصاديات المياه والبيئية
المؤهل الأكاديمي: دكتوراه في هندسة البيئة
التعريف: مستشار هندسة واقتصاديات المياه والبيئية