

عبدالله الكناني
بقلم: عبدالله بن حسن الكناني
حين تقودك الخطى إلى محافظة المندق، تشعر وكأنك تسير نحو لوحةٍ أبدعتها يد الطبيعة؛ تهمس لك الأرض بالخُضرة، ويستقبلك النسيم بندى الجبال، وتفوح من ترابها رائحة الأصالة الممتزجة بجمالٍ أخّاذ لا يبهت مع تعاقب الفصول.
تقع المندق على سفوح جبال السروات، وتُعد العاصمة الإدارية لمحافظة المندق التابعة لـ منطقة الباحة.
تُحاط بالجبال وتحتضنها السهول، وتكتسي بثوبها الأخضر في معظم أيام السنة.
تغتسل بماء السماء الصافي، فتفيض الأودية، وتتمايل الشلالات من أعالي السفوح في مشهدٍ يأسر الزائر قبل عدسة المصوّر.
هي أرض الجمال الصامت والمجد الهادئ، تتراءى لعينيك كحلمٍ ناعم، لكنها في الحقيقة نابضة بالحياة. تمضي بخطاها المتأنية، وتُضيف إلى رصيد منجزاتها عامًا بعد عام، رغم بطء الحركة، وضعف الاستثمار، وتردد القطاع الخاص في استثمار خيراتها الواعدة.
ومع هذا التباطؤ، تبقى المندق كما عهدناها: جميلة، واثقة، تزهو بعناق الغيم لقممها، وتفتح ذراعيها لكل من يبحث عن الصفاء ودفء الجبال.
تتميز المندق ببيئة زراعية خصبة، تتنفس من باطن الأرض وماء السماء.
تمتد المزارع في قراها على مدى البصر، حيث تُزرع الحبوب والخضروات، وتُنتج فواكه الصيف بنكهة لا تُشبهها نكهة: العنب، والرمان، والتين، والمشمش، والتفاح، والبرشومي، والحماط، والتوت.
هنا، تُنبت الأرض الخير وتفيض بالجمال، وتحكي المزارع قصة الإنسان حين يلتصق بأرضه ويستثمر مواسمها.
ورغم هذه الوفرة، ما زال القطاع الزراعي ينتظر رعاية مؤسسية، تُحوّل الجهود الفردية إلى منظومة إنتاجية مستدامة تعود بالنفع على السكان والاقتصاد المحلي.
فهل نرى قريبًا هيئة أو مكتبًا استراتيجيًا يُعنى بذلك؟
وفي بطون الأودية، تنتشر العديد من السدود التي حفظت مياه الأمطار وساهمت في تشكيل مشهدٍ جمالي فريد، لكنها – رغم أهميتها – لا تزال مساحة مهدرة من حيث الاستثمار البيئي والسياحي.
هذه السدود، التي يمكن أن تتحول إلى واجهات جذب سياحي بيئي، تفتقر إلى المرافق والخدمات والمقومات الأساسية التي تجعل منها وجهات مكتملة.
هناك محاولات، لكنها دون المستوى الذي يليق بمكانٍ يحمل كل هذا الجمال. ووزارة البيئة – كما عهدناها حريصة على المحافظة – ننتظر منها ما يدعم الزراعة والمشروعات البيئية في هذه المنطقة الزاخرة بالفرص.
وللمندق وجهٌ آخر من الجمال… وجهٌ يحكي حكايات التاريخ العريق.
في قرية “الجبور” شمال غرب المندق، تتحدث الحجارة وتُحاور الجبال، حيث يُنسب إليها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، أكثر الصحابة روايةً عن النبي ﷺ.
ومن قلب قرى دوس، تنبع الحكايات، حيث خرج منها الصحابي الطفيل بن عمرو الدوسي الذي أسلم مبكرًا، ودعا قومه، فاستجابوا، وكان منهم أبو هريرة.
وقد بارك النبي ﷺ هذه القبيلة العظيمة بدعائه المشهور:
“اللهم اهدِ دوسًا وأتِ بهم”.
بين قريةٍ وأخرى، تقف الشواهد على عراقة المكان، وتتناثر القصص في بطون الجبال وصدور الرجال، ويكتمل المشهد بشعرٍ عربي فصيح، وثّق حوادث ومواقف لقبائل دخلت الإسلام وكان لها فيه أثر لا يُنسى.
واليوم، لا يزال أهالي المنطقة والمحافظة وزائروها يترقبون دورًا فاعلًا من المكتب الاستراتيجي لتوثيق هذا الإرث، على غرار ما تم في بعض مواقع طريق الهجرة إلى المدينة المنورة.
فهذه كنوز من كنوز المملكة، ما زلنا نحلم بتفعيلها وتحقيقها.
ورغم صِغر مساحتها، تفاجئك المندق ببعض مرافقها الترفيهية؛ ولعل حديقة الفراشة هي أبرزها وأشهرها.
هذه الحديقة، التي أُنشئت بشراكة ناجحة بين القطاع البلدي والخاص، أصبحت رمزًا للهوية السياحية في المندق.
في حديقة الفراشة، ينبض المسرح الصغير بالفلكلور، ويؤدي الأطفال فقراتهم ببراءة، وتنتشر الأسر المنتجة بمنتجاتها المحلية، وسط طبيعةٍ تقول للزائر:
“ارتح هنا… ففي المندق حياة لم تُكتشف بعد.”
ولأن الطبيعة وحدها لا تصنع المدن، بل تُكمّلها جودة الحياة، فقد نالت المندق اعتماد المدينة الصحية العالمية منذ عام 1998م، لاستيفائها معايير بيئية وصحية متقدمة: كوفرة الغطاء النباتي، وخلوّها من المصانع، وتوفّر الرعاية الصحية الأولية، وتخطيطها العمراني المنظم، وغياب الأحياء العشوائية.
وما زالت المندق تحافظ على هذه الهوية، لكنها بحاجة إلى تجديد الرؤية، وتوسيع آفاق الاستثمار في هذه المكانة، لتتحول من مجرد عنوان صحي إلى أنموذج تنموي متكامل.
المندق اليوم تقف على أعتاب تحوّلٍ نوعي,لا ينقصها شيء من المقومات: أرض خصبة، طبيعة آسرة، تاريخ عميق، تراث حي، وموقع استراتيجي على طريق الطائف – الباحة.
ما تحتاجه فقط هو تفعيل أفكار المبدعين، ورؤية تنموية شجاعة، واستثمارات نوعية تليق بهذا الكنز الطبيعي، الممتد على قمم جبال السروات، التي تنتظر إنشاء المطلات وعربات التلفريك لتطل على منحدرات بكر، وطبيعة لا يضاهيها مكان.
وتبقى المندق، كما كانت دائمًا، عروس السروات، ووجهة الباحثين عن سكينة الجبال وهمس الشلالات، ومهوى أفئدة العاشقين للبساطة والتاريخ.
ويبقى أهالي وزائرو محافظة المندق يترقّبون تحسّن مستوى الخدمات، وعلى رأسها الاتصالات، التي لا تزال تُعكّر صفو الزائرين بضعفها أو انعدامها في بعض المواقع، رغم كونها ضرورة ملحّة في هذا العصر المتصل.
كما يطمح الأهالي إلى إدارة البرامج والفعاليات وفق رؤية مؤسسية واضحة، تُعلن عنها عبر قنوات رسمية ذات مصداقية، لا أن تترك بيد أفراد قد يُسيئون التقديم أو ينشغلون بالتسويق المدفوع، الذي لم يعُد مقبولًا لمن يعي رسالة الإعلام ويدرك أدواته.
*صيف الباحة*برعاية سمو أمير المنطقة ومتابعه التنفيذ من أمين المنطقه يزخر اليوم بالكثير مما يُلبي الطموحات في مواقع متعددة، تُجسّد مجد المكان، وتُبرز عظمة الإنسان، وبهاء السعودية دارًا ومكانًا، تاريخًا وتراثًا ضاربًا في عمق السنين.
دام عزك يا وطن المجد 🇸🇦.

