عبدالله الكناني

٠٢:٢٦ م-١١ يونيو-٢٠٢٥

الكاتب : عبدالله الكناني
التاريخ: ٠٢:٢٦ م-١١ يونيو-٢٠٢٥       12265

بقلم: عبدالله الكناني

في موسم حج 1446هـ، لم يكن المشهد مجرد تدفّق بشريّ إلى المشاعر المقدسة، بل كان عرضًا متكاملًا لنموذج دولة تدير القِبلة وزحام العالم في آنٍ واحد، وتقدّم للعالم درسًا حيًّا في كيف تصنع من الفريضة تجربة إيمانية، آمنة، منضبطة، وذكية وكنت بحمد الله شاهدا على بعض تفاصيلها وفي أعوام عدة سابقة سعيدا بشرف المشاركة.

قبل أن يصل أول فوج  من حجاج بيت الله الحرام إلى مكة المكرمة، كانت الخطة قد اكتملت، ليس على الورق فحسب، بل على الأرض، في الميدان، في الخوارزميات التي تراقب كثافة الحشود وتوجهها، في المسارات التي رُسمت بدقة، وفي الجداول الزمنية التي وزّعت حركة الحجاج كأنها نُسجت على نولٍ دقيق. 

لم تكن الإجراءات ارتجالية، بل نُفذت بروح السيادة والمسؤولية، كما لو أن الدولة كلها قد انصهرت في هيئة واحدة تخدم ضيف الرحمن من لحظة قدومه حتى وداعه.

على امتداد المشاعر، كانت المهارة السعودية حاضرة في كل التفاصيل. 

إدارة الحشود لم تعد مجرد فعل أمني، بل علمٌ سعوديٌّ متكامل، نضج عبر العقود وتحوّل إلى ممارسة عالمية دقيقة. 

الحجيج يتحركون من عرفات إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، ضمن إيقاعٍ محسوب، لا تعلو فيه الفوضى على النظام، ولا الحشود على القدرة، ولا الزمن على الانسيابية. 

كان المشهد شديد الكثافة لكنه خالٍ من التوتر، كأن الجموع تتحرك بإشارة خفية، وهي ليست خفية في الحقيقة، بل علمٌ وتجربة وابتكار.

وفي هذا العام، لم تكن التقنية خلف الكواليس، بل كانت في صدر المشهد. الذكاء الاصطناعي لم يُستخدم للشكل أو الدعاية، بل لقراءة الواقع والتصرف معه لحظة بلحظة. 

من تحليل البيانات الحيّة، إلى الكاميرات الذكية، إلى تطبيقات الهواتف التي ترشد وتوجه وتُطمئن. حتى الروبوتات دخلت المشهد، لتجيب وتخدم وتواكب، بلغة كل حاج، وبخطى لا تتعثر. 

لم تكن التقنية خصمًا للروحانية، بل خادمًا لها،وقد طبقت السعودية إجراءات ذكية متعددة لضمان سلامة وأمن وراحة ضيوف الرحمن، أبرزها:

    •• منع 269 ألف مخالف لتطبيق شعار “لا حج بلا تصريح” الذي لم يكن مجرد توجيه، بل قاعدة صارمة نُفذت بدقة لحماية النظام العام وضمان العدالة بين الحجاج النظاميين. 

    •• تعزيز منظومة التبريد في المشاعر لتلطيف الأجواء القاسية.

    •• نشر طواقم طبية ضخمة وفرق رعاية صحية متنقلة عالية الجاهزية.

    •• تخصيص مسارات خاصة لكبار السن وذوي الاحتياجات.

    •• تطوير خدمات النقل البري والجوي، وقطارات المشاعر السريعة.

ومن المبادرات النوعية التي شكّلت فارقًا في تجربة الحجاج، كانت مبادرة “طريق مكة”، التي اختزلت الوقت والجهد على ضيوف الرحمن منذ لحظة مغادرتهم بلدانهم، حيث أنهت الإجراءات الإدارية والصحية قبل صعودهم للطائرة، وجعلت دخولهم المملكة يتم بانسيابية مذهلة. 

إنها مبادرة تسابق الزمن، وتُجسّد نموذج الدولة الخادمة للحاج في كل خطوة.

ولم يكن التنظيم ليتحقق بهذا المستوى دون توجيه القيادة العليا، حيث أشرف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله، على تفاصيل الاستعدادات، وأناب سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان حفظه الله، للإشراف على تنفيذ الخطط وتكامل الجهود، مما أكسب الموسم بعدًا استراتيجيًا رفيعًا، يُترجم رؤية الدولة في أن تكون مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة نموذجًا عالميًا متجددًا في إدارة المناسبات الدينية الكبرى.

وكانت القيادة الأمنية هي التاج فوق هذا البناء؛ بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف وزير الداخلية رئيس اللجنة العليا للحج، والتي قدّمت نموذجًا متكاملًا في ضبط الحشود، وتأمين المسارات، وتفويج الحجاج بانضباط صارم، وجودة تنفيذية عالية، تُحسب ضمن أفضل ممارسات إدارة التجمعات في العالم.

ولعبت إمارتا منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة أدوارًا إدارية محورية، من خلال الإشراف على سير الخطط، وقيادة الفرق الميدانية، وضمان تضافر الجهود على مستوى المحافظات والقطاعات المختلفة.

أما الإعلام السعودي، الرسمي والخاص، فقد قدّم رواية النجاح لحظة بلحظة، بالصوت والصورة، وبأكثر من لغة، ناقلًا الصورة الحقيقية لما يحدث على الأرض، ومُبرزًا تفاصيل الجهود والتنظيم والقصص الإنسانية المؤثرة التي صاحبت الرحلة.

ومع نهاية أيام التشريق، لم يكن الحجيج وحدهم من أتموا النسك، بل أتمت الدولة أيضًا نُسكها في إدارة هذا الحشد الإنساني العظيم. في زمن تضطرب فيه الجموع حول العالم، أثبتت المملكة العربية السعودية 🇸🇦 أن بإمكانها أن تُدير أكبر تجمع بشري على وجه الأرض، ليس بالصرامة وحدها، ولا بالتقنية وحدها، ولا بالإيمان وحده، بل بها مجتمعة: بالحكمة، والخبرة، والخدمة، والعقيدة.

لم يكن  حج 1446هـ  موسمًا ناجحًا فحسب، بل كان لحظة صدق في مواجهة العالم، بأن هذه الأرض تعرف قدرها، وتعرف كيف تخدم من يأتيها محرمًا، راجيًا، متضرعًا، ومتوكلًا على الله. 

وما بين مشهدٍ ومشهد، وبين تكبيرٍ وتلبية، كُتب فصل جديد في كتاب النجاح السعودي، حيث تصطف الدولة كلها، شعبًا ومؤسسات، خلف ضيفٍ واحد: الحاج.