

بقلم- د. غالب محمد طه
أخبارٌ متواترة تداولتها الأسافير في الأيام القليلة الماضية تحتفي وتحتفل بصاحب السمو الملكي أمير المنطقة الشرقية وهو يشرف حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة حفر الباطن حدثٌ بهيج، اقترن بتدشين المشروع الاستراتيجي الكبير للجامعة: كلية الطب، مناسبة مزدوجة، احتفلت بها المدينة، واحتفت بها الإمارة، وشاركت فيها مشاعر الفخر كل بيت في حفر الباطن، واحتضنتها المحافظة كعنوان لتقدم التعليم وتكامل التنمية.
لقد رصدت بمزيد من التأمل، الفرحة التي اجتاحت المدينة وأدركت أنها لم تكن مجرد احتفال لحظي، بل هو تعبيرًا صادقًا عن نضج الجامعة وتطورها، وتأكيد على ما تحظى به هذه المؤسسة من رعاية واهتمام القيادة بمستقبل الإنسان السعودي.
كانت الفرحة بنظرة سمو الأمير، التي تعكس الثقة في الطلاب، وبإشراقة مستقبل يُبنى على أساس من الإيمان بالعلم والاستثمار في الإنسان.
لكن وسط هذه البهجة، مرّ أمامنا رقم لافت، ربما لم يأخذ ما يستحق من التأمل: ٦١٢٠ خريجًا وخريجة دفعةً واحدة رقم ضخم، ويستحق أن نُمعن النظر فيه، ونتوقف عنده لنتأمل ماذا يعني حقًا، بل اعتبره عنوان لمرحلة جديدة تكتبها المدينة بهدوء، بعيدًا عن الأضواء العالية، ولكن بثبات يستحق الاحترام.
تخيل هذا الرقم في مدينة واحدة، ٦١٢٠ شابًا وشابة أنهوا مسيرتهم الأكاديمية، وكل منهم يحمل قصة نجاح، وطموحًا يتأهب للانطلاق، هذا الرقم لا يدل فقط على كفاءة الجامعة، بل يُجسّد تحوّل حفر الباطن من هامش جغرافي إلى متن حضاري، لتعيد رسم خارطتها من مدينة عُرِفت بأنها على الأطراف، إلي مدينة تتوسط عقد المنطقة الشرقية.
لكن ما يبعث على السرور العميق هو تفاصيل هذا الرقم ٤٣١٨ خريجة، المتأمل في الرقم سيجد أنه ليس مجرد تفوق عددي، بل بيان اجتماعي ناطق: أن التغيير يحدث، وأن النساء اليوم يصعدن إلى المنصات الأكاديمية بثقة، والمجتمع لا يكتفي بتقبلهن، بل يحتفي بهن، رقم يعتبر شهادة صريحة على تحوّل اجتماعي هادئ، لكنه عميق، ويعكس نضج مجتمع يؤمن بأن تعليم الفتاة لم يعد خيارًا، بل ضرورة، بل فخر.
هذا التحول بالضرورة ليس وليد اللحظة، بل ثمرة رؤية طموحة وضعت الإنسان في صميم مشروعها، وأدركت أن الحياة تبدأ من المرأة، وأن تمكينها هو تمكين للمجتمع بأسره.
واليوم، تسطر جامعة حفر الباطن فصلًا جديدًا في سجل إنجازاتها، وهي تمد الوطن بكفاءات شابة مؤهلة، قادرة على أن تسهم بفاعلية في مسيرة التنمية، وترفع راية المملكة عاليًا في مختلف الميادين، إن تخريج هذا العدد من الطلاب والطالبات من جامعة واحدة يعني أن المدينة أصبحت مصنعًا للكوادر الوطنية، وحاضنةً للأحلام، وركيزة ثابتة في بناء مستقبل هذا الوطن.
٦١٢٠ شهادة؟ لا، بل ٦١٢٠ مشروع حياة. خلف كل شهادة قصة، وخلف كل قصة حلم، ووراء كل حلم وطنٌ يزدهر بأبنائه، منهم من سيدخل سوق العمل، ومنهم من سيبني أسرة، ومنهم من سيعود ليغرس علمه في مدرسة، أو مستشفى، أو مؤسسة، هذا الرقم يُضيء البيوت، ويُنعش الأحياء، ويمنح المدينة طاقة جديدة للنهوض.
وإذا كانت كلية الطب تمثل قمة الطموح في البنية الأكاديمية للجامعة، فإن هذه الدفعة هي قاعدتها الصلبة، فبدون هؤلاء الشباب، ما كان للحلم أن يكبر، فالجامعات لا تُبنى بالإسمنت، بل بالناس الذين يخرجون منها ويعيدون استثمار العلم في واقعهم.
ما صنعته جامعة حفر الباطن هذا العام لا يمكن اختزاله في صور حفل، ولا يُقاس فقط بالأرقام. لقد رفعت سقف التوقعات من المدن الصغيرة، وأعلنت بلغة واضحة: نحن إحدى شرايين هذا البلد المبارك هذا التخرج لا يخص الجامعة وحدها، بل هو إنجاز لحفر الباطن كلها. إنجاز لكل من آمن بالتعليم طريقًا لا نهاية له، نجاح لرؤية وضعت الإنسان في صميم مشروعها.
نقف اليوم أمام ٦١٢٠ نجمًا جديدًا، لا يُضيئون سماء مدينتهم فقط، بل يحملون نورهم إلى حيث يُحتاج في هذا الوطن المبارك.
مبارك لكل خريج وخريجة، مبارك لأسرهم، ومبارك لوطنٍ يفخر دائمًا بأبنائه وبناته.