

بقلم-أحمد صالح حلبي
في رحلته للحج توقف الرحالة والمؤرخ والقاضي ، ومن عرف بابن بطوطة ولقب بأمير الرحالين المسلمين ، أمام مكة المكرمة قائلا : " ومن عجائب صنع الله تعالى أنّه طبع القلوبَ على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل حبّها متمكنا في القلوب فلا يحلّها أحد إلا أخذت بمجامع قلبه، ولا يفارقها إلّا أسفا لفراقها، متولّها لبعاده عنها، شديد الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب حكمة من الله بالغة، وتصديقا لدعوة خليله عليه السلام، والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاقّ ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عيّانا دونها، ويشاهد التّلف في طريقها، فإذا جمع الله بها شمله تلقاها مسرورا مستبشرا كأنه لم يذُق لها مرارة، ولا كابد محنة ولا نصَبا، إنه لأمر إلهي، وصنع ربّاني، ودلالة لا يشوبها لبس ولا تغشاها شبهة، ولا يطرقها تمويه، تقوي بصيرة المستبصر، وتُسدد فكرة المتفكر".
أما أهل مكة المكرمة فقال عنهم : " ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء، ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، و يستدعيهم بتلطّف ورفق وحسن خلق ثم يطعمهم، وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران حيث يطبخ الناس أخبازهم فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيُعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيّب النفس بذلك من غير ضجر".
كما أن لأهل مكة المكرمة ميزة أخرى جميلة أوردها الدكتور حسن مختار في كتابه (مكة المكرمة أحب أرض الله إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)، إذ تحدث عن "الأزقة في مكة المكرمة وأثرها على الحياة الاجتماعية"، وأشار إلي دورها في تاريخ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأحداث التي مرت على مكة المكرمة، وأشار إلى " أن تخطيط مدينة مكة المكرمة والأزمنة التاريخية القديمة كان عشوائياً، والذي أدى بالتالي إلى بناء دور واحد للسكان وإيجاد أزقة للانتقال من مكان إلى آخر، فأصبح بناء الدور يتناسب مع الشكل الدائري حول منطقة الكعبة "وعرف المؤلّف الزقاق موضحاً "الزقاق هي السكة أو الطريق الضيقة كما ورد في قاموس المنجد في اللغة والأدب والعلوم"، وأشار إلى أن مكة المكرمة لم تشهد تخطيطاً "منذ تاريخ ما قبل الإسلام وبعده مروراً بالخلافات التي حكمتها كما هي الحال بتطبيق الشوارع الضيقة والأزقة وعدم توفر أماكن مفتوحة وميادين حتى العام 1925م، عندما جاء العهد السعودي بدأ تخطيط مكة المكرمة على أسس هندسية علمية".
وبين دور الأزقة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية نتيجة فتح عدد كبير من المتاجر ، و"تعزيز العلاقات الاجتماعية بين سكان الزقاق (الجيران) لتقارب الدور ببعضها"، واستخدام "بعض الأزقة متنفساً للأطفال والشباب يلعبون فيها الألعاب المختلفة".
وفي الختام أقول إن أجمل ما أوردته كتب والتاريخ يتمثل في مداعبة الأمهات لأطفالهن بعد عودتهم من صلاة عيد الفطر مرتدين الثياب الجديدة فتنشد الأم قائلة:
يا مرحبا بعطر العود ترحيبة من هوى بالي
أمك أم الكرم والجود وأبوك منصب عال
لتنقل للأطفال كرم أمهاتهم ، وحرصهن على تقديم الأفضل للضيفات ، كما تبرز مكانة الأب سواء داخل أسرته أو خارجها لتوضح للأطفال أن المنصب وإن صغر خارجيا ، فإنه داخل الاسرة كبير جدا .