بقلم - أحمد صالح حلبي
قبل أن أدلف إلى داخل أروقة مكتبة الحرم المكي الشريف كقارئ يبحث عن العلم والمعرفة بهدوء وسكينة ، توقفت أمام رمال بطحاء قريش حيث تقع المكتبة فتذكرت قول الحق تبارك وتعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام } رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ { .
وأنا أتذكر هذه الآيات البينات ، أوقفتني كلمات الشاعر العراقي يحيى السماوي وهو يصور عظمة مكة المكرمة بقوله :
أوصى بها الرحمن فهي عظيمة..
من غيرها الرحمن قد أوصى بها
لو لم تكن خير البلاد على الثرى..
ما كان بيت الله فوق ترابها
ومن عظمة مكة المكرمة ومكانتها ، جاء من يحدثني عن عشقها الذي ترجمه الشاعر السوري محمد رفعت زنجير بقوله :
قلبِي يَذُوبُ إِلَيكِ مِن تَحْنَانهِ
وَيَهِيمُ شَوقاً في رُبَاكِ وَيَخْضَعُ
فَإذا ذُكِرتِ فَأَدمُعِي مُنْهَلَّةٌ
وَالنَّفْسُ مِن ذِكْراكِ دَوْماً تُوْلَعُ
وَإِذا خَلَوتُ إِلَيكِ كَانتْ وِجْهَتِي
فَالرُّوحُ فِيكِ أَسِيرَةٌ، لا تَشْبَعُ
وَإذا وَقَفْتُ مُناجِياً وَمُصَلِّياً
كَانَتْ بِنَفْسِي دَعْوَةٌ أَتَضَرَّعُ
أما وصفها فنراه متمثلا في قول الشاعر حسين عرب :
أم القرى يا جنة الـيوم والغـد
ويا زينة الماضي التليد المجدد
ترابك أندى من فتيت معطر
وصخرك أجدى من كريم الزمـرد
أعز بلاد الله في الأرض موطنا
ومولد خير الأنبيـاء محمــد
عرفنا الهوى قبل أن يخلق الهوى
لديك فوافيناه في خير موعـد
عشقناك أطفالا صغارا وفتية
وزدنــاك أشياخا عظيم التوجـد
رويناك بالدمع السخين محبة
تنم على الوجد المكيــن المـؤكد
فلا عز من يجفوك إن عزفت به
صنوف الأماني رادها شر مــورد
ولا زال من يحبوك إن عصفت به
صروف الليالي من قريب ومبعـد
بلاد الهوى والجود والوحي والندى
ومهد الكتاب المستطاب الممجد
أحـط بك الحجاج من كل عابد
تبتل للمعبود أو متعبــد
تنادوا إلى وادك من كل سبسب
وجاؤا إلى ناديك من كل فدفـد
تهادوا إلى سـاح كريـم مطهر
تنادوا لديه من مسود وسيد
لك الله إن الله حامك ملجأ
ويزيد في وصفها ابنها الشاعر علي أبو العلا ، بقوله :
"مكة" يا قبلة الأرض وحسبي
أن بنى الله كياني من ثراها
"مكة" يا منزل الوحي وضيئاً
غمر الأكوان فازدان بهاها
"مكة" يا مهد آساد الشرى
أخضعوا الآفاق وانقادت ذراها
تربها كالمسك عطراً وعبيراً
وأمان الله قد عمّ حماها
"كعبة" القصاد من حج منيباً
أبلغ النفس من الأجر مناها
ودعا لله في موقفه
"عرفات الله" يحظى من أتاها
بوأ الله لإبراهيم فيها
موضع البيت فلبى وبناها
أما جلالها فنراه في قول الشاعر المكي الراحل محمد حسن فقي :
مكّتي لا جلالٌ على الأرضِ
يداني جلالَها أو يفوقُ
ما تبالينَ بالرشاقةِ و السحرِ
فمعناكِ ساحرٌ و رشيقُ
أما غرامها فقد وصفه ابن الوكـيل أحمد بن مـوسى المكي ، بقوله :
اللهُ يعلم أنني بـكِ مُغرَمُ
والقلب مني في هواكِ مُتيَّمُ
فإلى متى هذا الصدودُ وذا الجفا
وإلى متى أخفي الغرام وأَكْتُم
ما البحرُ إلاَّ من تَدَفُّـقِ أدمعي
والنار إلا من فؤادي تُضرمُ
كم ليلة قد بت فيها غائبًا
واللهُ بالشوق المبرح أعلم
وعشقها قاله عنه الشاعر الدكتور عبدالله بن محمد صالح باشراحيل :
مكة الحب وأعلام تراءت
وسقت وديانها شمساً وظلا
إنها رجع براءات نشاوى
وهنا طين المنى قد صار فلا
وجمال أمطارها وجريان وديانها يقول عنه الشاعر عمار الذبياني :
جَمَالُ الدِّيَارِ بِأَنْ تُمْطِرَ
فَكَيْفَ بِمَكَّةَ أُمِّ القُرَى ؟
يَهُبُّ النَّسِيمُ بِهَا عَاطِرًا
إِذَا بَلَّلَ الغَيْثُ مِنْهَا الثَّرَى.
ومن جمال وعشق لأم القرى إلى وصف للطواف ، وندم وخشوع عند الدعاء ، وشرب لدواء يشفي من كل داء ، أوضحه الشاعر مصطفى زقزوق قائلا :
قف بالطوافِ على الخطيئة نادما
واخضع لربك خاشعاً مستسلمـا
وأمـام هــذا البـيـتِ كــنْ متـأدبـا
تجـد العنايـةَ والسـلامـةَ مغنـمـا
واشـرب دواء الــداءِ مــاءً شافـيـاً
مـا زالَ زمــزمُ للمـواجـعِ بلسـمـا
مـن جـاءَ مكـةَ خشـيـةً ومهـابـةً
ويلحُّ في طلبِ الرضا مسترحمـا
فالله ذو فـضــلٍ وصـاحــبُ مِــنَّــةٍ
سبحـانـهُ يُعـطـي ويَعـفـو دائـمـا
وإن كان لمكانتها في الأفئدة أمر مختلف ، فإن في فراقها صعوبة ، قال عنها الحَارِثُ بنُ مُضاضٍ الجُرهميُّ :
وَقائِلَــةٍ وَالــدَّمْعُ ســَكْبٌ مُبــادِرٌ
وَقَـدْ شـَرِقَتْ بِالـدَّمْعِ مِنْها الْمَحاجِر
وَقَـدْ أَبْصـَرَتْ نَعْمـانَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها
وَمِنْهــا الْمَغــانِي مُوحِشـاتٌ دَوائِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفا
أَنِيــسٌ وَلَــمْ يَســْمَرْ بِمَكَّـةَ سـامِرُ
فَقُلْــتُ لَهـا وَالْقَلْـبُ مِنِّـي كَأَنَّمـا
يُلَجْلِجُــهُ بَيْــنَ الْجَنــاحَيْنِ طـائِرُ
بَلَــى نَحْـنُ كُنَّـا أَهْلَهـا فَأَزالَنـا
صـُروفُ اللَّيـالِي وَالْجُـدُودُ الْعَواثِرُ
وحرمة الظلم فيها نراه متمثلا في قول " سُبَيعة بنت الأحبّ، وكانت عند عبد مناف بن كعب، لابن لها منه يقال له خالد " :
أبُنَـيَّ لا تظلِـم بمكَّـة لا الصغيـرَ ولا الكبيــرْ
واحفـظ مَحـارمَهـا بُنَـيَّ ولا يغرّنْـك الغَـرورْ
أبُنَـيَّ مـن يظلـم بمكَّـة يلـق أطْـرافَ الشُّرورْ
أبُنَـيَّ يُضْـربْ وجهـهُ ويَلـُحْ بخدّيـه السَّـعيـرْ
أبُنَـيَّ قـد جَرّبتهـا فوجدتُ ظالمهـا يبـور
الله أمّـنهـا ومـَا بُنيـت بعَـرْصتهـا قُصورْ
وفي الختام أقول هل هناك مدينة تغنى بها الشعراء عبر العصور كما تغنوا بمكة المكرمة أم القرى ؟