الكاتب : النهار
التاريخ: ١٨ نوفمبر-٢٠٢٥       3905

بقلم - د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

الحياةُ مَصنعُ أثر، وساحةُ بناء، وميدانُ معارف، والإنسان فيها كائنٌ خُلق أصلًا ليخالط، ويتفاعل، ويتعاون، فهو مدنيٌّ بطبعه كما يقول الحكماء. غير أنّ هذا الاضطراد الاجتماعي الذي يشكّل ماهيته، لا يُفترض أن يتحوّل إلى قيدٍ أو سجنٍ أو حالةِ استعبادٍ عاطفي أو نفسي. فالأصل في العلاقات أن تكون مَعينًا لا مِعولًا، وأن تمنحك أجنحة، لا أن تضع في قدميك الأغلال.

لكن الواقع – كما نراه في تجارب الناس – لا يُشبه دائمًا الأصل النظري.
فعلاقاتٌ كثيرة تبدأ بريئة، ثم تن ولا من الجهد بقايا، ولا من العافية ما يُعين على الإبداع. إنها علاقاتٌ تسحب من رصيدك ولا تضيف، تُعكّر صفوك ولا تهذّبك، تُثقلك ولا تُطلقك، وتحوّلك مع الوقت إلى أسير لا رفيق.

والفطنُ وحده من يعرف وزن العلاقات، فيزنها بميزان العقل والبصيرة، لا بميزان المجاملة أو الخوف من الفقد. يقيس ما تضيفه إلى حياته، وما تقتطعه من عمره، فيُقرّب ما كان جادًا مثمرًا، ويبتعد بهدوء عن كل ما كان ضجيجًا بلا قيمة.
فالانسحاب ليس هزيمة، بل حكمة؛ والتقليل ليس جفاء، بل رشد. وبعض الابتعاد قُربٌ إلى النفس، وبعض التجاهل سلام، وبعض المسافات رحمة.

الحياة ليست رفاهًا خالصًا، ولا نُزهةً طويلة، ولا ضحكةً ممتدّة؛ ولكنها أيضًا ليست شقاءً مقيمًا ولا عبئًا بلا ملامح.

إنها خليطٌ جميل من الطيّب والعَذب، من الجدّ والمتعة، من السعي والراحة، من الصمت والكلام، من الأخذ والعطاء. وما بين هذه الثنائيات يمضي الإنسان في طريقه، يبحث عن الاتزان الذي يحفظ روحه من الإنهاك، وعقله من التشتت، وقلبه من الانكسار.

ليس المطلوب أن نقطع العلاقات، بل أن نحسن هندستها.
ليس المقصود أن نعيش وحدنا، بل أن نختار من يستحق أن يرافقنا.
فالعلاقات ليست ألقابًا تُجمع، ولا أعدادًا تُفاخر بها، بل هي مسؤولية و”شراكات عمر”.

فكن مع من يزيدك، لا من يستنزفك، ومع من يفتح لك نوافذ الضوء، لا من يُطفئ ما تبقّى من شموعك.
ومع من يراك كما أنت، لا كما يريده هو.

وبهذا فقط…
نخرج من دائرة أسرى العلاقات إلى فضاء العلاقات الحرة الناضجة، التي تبني المرء بدل أن تُهدمه، وتُثمِر بدل أن تستهلكه،وتجعله كل يوم أكثر قربًا من ذاته، وأكثر صفاءً في مسيرته، وأكثر سلامًا مع الحياة.