

بقلم-أحمد صالح حلبي
أثناء توجهي صوب المسجد الحرام عصرا ، توقفت متذكرا سنوات من العمر مضت ، وأحياء سكنية غذت ماض ، ومبان كانت قائمة أزيلت مع توسعة المسجد الحرام ، فتذكرت حينها يوم كان منزلنا بالقرب من المسجد الحرام، وكان صوت المؤذن يوقظنا لصلاة الفجر، ويدعونا لأداء الصلاة في حينها ، والبعد عن الكسل ، وكان الجيران يمثلون أسرة واحدة متماسكة.
وأمام هذه الذكريات التي أعادتني لأيام جميلة غدت ، تذكرت ما قرأته في كتاب (حارات ومعالم جوار المسجد الحرام) للأستاذ الدكتور فوزي بن محمد بن عبده الساعاتي ، الذي تناول أبواب المسجد الحرام الواقعة في الجهة الجنوبية للمسجد الحرام ، ثم عرج للحديث عن باب أجياد الذي ذكرني بهذا الحي الجميل المترابط اجتماعي ، وذكرني بأسرتي التي سكنت فيه فترة قصيرة قبل انتقالنا لحي المسفلة ، وأجياد ضمت العديد من القطاعات الحكومية والمؤسسات الأهلية ومنها التكية المصرية التي كانت تقدم الأطعمة للحجاج القادمين من شتى بقاع العالم الإسلامي ، وكانت مكانا لإقامة المنقطعين وبعض من موظفي الدولة المصرية ، وقد بناها محمد على باشا عام 1238 هــ .
وفي أجياد كانت هناك الحميدية (دار الحكومة) وفيها توجد (قاعة الديوان) ، والتي جرى فيها "انتخاب أعضاء مجلس الشورى في سنة 1344 هـ، وعقد فيها الاجتماع الأول لأعضاء مجلس الشورى في شهر ذي القعدة 1344 هـ".
وفي حي أجياد وغيره من أحياء مكة المكرمة تتزين الطرقات والشوارع معبرة عن الفرح بقدوم رمضان ، وتبدأ الألعاب الشعبية في البروز لتنقل الفرح والسرور لدى الأطفال ، كما تمتد السفر الرمضانية أمام المساجد لتجمع الغني والفقير وعابر السبيل ، وليلا يكون السمر في المراكيز حيث تروى الحكايات وتنهى الخلافات.
والحديث عن رمضان في مكة المكرمة يأخذنا لوصف القاضي والمؤرخ المصري أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي المصري الشافعي، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، وأدى فريضة الحج سنة 1053 ميلادية ، لرمضان في مكة المكرمة إذ اعتبره من " أحد عجائب الإسلام " ، " حيث استهواه جلال رمضان في الحرم المكي، حيث كان يتم إحياء لياليه بتلاوة القرآن والصلوات، ويجتمع فيه أهل مكة فلا يبقى فيه زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ أو مصلٍ، فيرتج المسجد لأصوات القراء من كل ناحية ".
" وتنقل لنا المصادر التاريخية العربية، ما قاله الرحّالة ابن جبير - الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي - عن شهر رمضان في مكة المكرمة قديما، فقال بأنه ما أن يهل شهر رمضان في مكة المكرمة حتى تُجدد الحصر ويكثر الشمع والمشاعل وغير ذلك من أدوات الإضاءة حتى يتلألأ الحرم بالنور، وكان التجار يتنافسون في إحضار الشموع لإضاءة جنبات الحرم ".
وختاما فإن ذكريات أحياء مكة المكرمة وحاراتها القديمة ، يصعب لمن عاشها أن ينساها ، لكونها حاملة لملامح الحياة التقليدية ، وروح رمضان البهية التي يبثها في النفوس فتنبض الافئدة فرحا ، إنها ذكريات لا تُمحى، لأنها علمتنا المودة والتراحم، وصلة الرحم والعطف على المساكين، والجود والبشاشة.
رحم الله من سكن تلك الأحياء ، وأكرم الفقراء وعابري السبيل ، ومسح دمعة اليتيم ، وحفظ كرامة الارملة والمحتاج.