الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٦ نوفمبر-٢٠٢٥       2090

بقلم - حذامي محجوب

من قلب نيويورك، المدينة التي تجمع في مشهد واحد بين البذخ والفقر، بين ناطحات السحاب الشاهقة في مانهاتن وهدسون ياردز، والأرصفة المتعبة في برونكس وبروكلين وهارلم، تولد مفارقة تُلخّص جوهر الرأسمالية الحديثة.

في هذا التناقض الصارخ، يبرز اسم  زهران ممداني  كرمز لزمنٍ سياسي جديد، إذ إن انتخاب أبناء المدينة لشابٍ مسلمٍ واشتراكيٍ ليكون عمدتها لا يعكس مجرّد تبدّل في الوجوه، بل تحوّلًا في الوعي، وانقلابًا في القيم والمعايير التي حكمت أميركا لعقود.
فوز ممداني لم يكن صدفة انتخابية، بل تعبيرًا عن وعيٍ جديد بدأ يتكوّن داخل المجتمع الأميركي، وخصوصًا في طبقاته المنهكة من ارتفاع الأسعار وتغوّل رأس المال.

لقد اختار الناخبون هذه المرة من يتحدث بلغتهم اليومية لا بلغة الأسواق، من يَعِدُهم بالعدالة قبل الازدهار، وبالكرامة قبل الأرباح.

خطابه السياسي كان بسيطًا بعمقه: نقل عام مجاني، سكن ميسّر، ورعاية اجتماعية تُنصف المهمّشين. وهي أفكار بدت لخصومه مثالية يسارية، لكنها لآلاف الأسر في نيويورك كانت خلاصًا واقعيًا من ضيق العيش.

ففي مدينةٍ يُقاس فيها النجاح بقدرتك على البقاء، تحوّلت شعارات ممداني إلى نبض الناس الذين أنهكتهم فواتير الحياة.

ولعلّ جوهر التحوّل الذي جسّده ممداني هو أنه أعاد السياسة إلى معناها الأصلي: خدمة الإنسان. فقد كسر احتكار النخب الليبرالية للخطاب العام، وفتح الباب أمام يسارٍ جديد لا يخجل من مفردات العدالة والمساواة الاقتصادية.

جيلٌ جديد من الأميركيين لم يعد يخاف من كلمة “اشتراكية”، بل بات يراها أداة لاستعادة التوازن المفقود بين المال والكرامة.

أما موقفه من القضية الفلسطينية، فكان الامتحان الأصدق لشخصيته السياسية.

في بلدٍ تتحكّم فيه المصالح بميزان الكلمات، تجرّأ ممداني على الجهر بالحق، متحدّثًا بلغة الضمير الإنساني لا بلغة الحسابات الانتخابية.

ورغم حساسية موقفه في مدينة تضمّ أكبر جالية يهودية في العالم، كسب احترام كثيرين لأنه كان صادقًا لا متلوّنًا، وشجاعًا لا مراوغًا.

هذا الفوز ليس فقط تتويجًا لمسيرة شاب من أصول مهاجرة، بل هو حدثٌ مفصلي في التاريخ السياسي الأميركي، إذ يعكس تحوّل مركز الثقل من وول ستريت إلى الشارع، من المليارديرات إلى الطبقة العاملة.

لحظة تؤكد أن التغيير لا يصنعه المال، بل الإيمان الجمعي والوعي المدني حين يتحرك.

ومع ذلك، تبقى التحديات أمام العمدة الجديد جسيمة: كيف يحوّل وعوده إلى سياساتٍ قابلة للتطبيق في منظومةٍ معقدة من المصالح والقوى؟ وكيف يحافظ على جذريته في وجه الضغوط المؤسسية؟ تلك أسئلة معلّقة على صبر التجربة وصدق الإرادة.

لكن ما لا جدال فيه أن  زهران ممداني  قد فتح صفحة جديدة في التاريخ السياسي لنيويورك، وأعاد إلى الديمقراطية الأميركية شيئًا من معناها الإنساني الغائب.

رجل جاء من الهامش، فغزا مركز القرار، حاملاً رسالة بسيطة وعميقة: أن السياسة حين تنحاز إلى الإنسان، تستعيد قدرتها على الإصلاح والتغيير.