بقلم - هلا الخباز
"اللي في القلب في القلب، ولو طال الغياب " مثل شعبي شائع في الخليج وبلاد الشام، ويؤكد أن الودّ الحقيقي لا يتأثر بالمسافات ولا بانقطاع اللقاء، وأن المسافة الجغرافية لا تمنع الألفة الروحية، فالحب يسافر أسرع من الأقدام، أو كما يقال :"الودّ ما بين القلوب، لا المسافات"، او كما قيل في الأثر النبطي بأن القلب يجد طريقه دوما " لو بيني وبينك جبل، القلب يطير له سبل " .
ليأتي مثل " البعيد عن العين بعيد عن القال "، أو كما يقال أن أصله هو " البعيد عن العين قريب عن القلب " ليؤكد ما قاله الأولين.
كانت الأمثال الشعبية مرآةً للحياة، تحفظ التجارب وتختصر الحِكم في جُمل موجزة، تُقال في المجالس وتُعلّم الأبناء كيف يفهمون الدنيا. لكنها كانت نتاج زمن مختلف، له قيمه وإيقاعه وبساطته. أما اليوم، ونحن في عصر السرعة والتواصل الرقمي والتغيرات الاجتماعية العميقة، يبدو أن كثيرًا من تلك الأمثال فقدت معناها. كانت الأمثال تشبه الناس بسيطة، صادقة، نابعة من قلب التجربة لا من الكتب. لكن تلك الأمثال وُلدت في زمنٍ مختلف؛ زمنٍ كانت العلاقات فيه متينة كبيوت الطين، والقيم ثابتة لا تتبدّل كل موسم، والإيقاع بطيئًا يمنح الأشياء معناها.
الحياة لم تعد تشبه ما ألفه أباءنا وأجدادنا أو حتى ما ألفناه في طفولتنا، لم تعد للأشياء نفس النكهة والطعم، لم نعد نمارس الأشياء كما اعتدناها .
كانوا يطبطبون علينا ويقولون “الصبر مفتاح الفرج"، لأن الفرج كان يأتي بعد انتظارٍ طويلٍ وجهدٍ صامت. أما اليوم، فالعالم يعيش على وقع “اللحظة”، والناس تريد نتائج فورية، حتى في العلاقات والعمل والحلم. صار الصبر في نظر البعض ضعفًا لا فضيلة، مع أن الحكمة ذاتها لم تفقد قيمتها، بل فقدنا نحن طريقتنا في ممارستها.
ومن " امش جنب الحيط " إلى " اصنع لنفسك صوتاً "، من زمنٍ كان الخوف والحذر وسيلتين للبقاء وللستر دنيا وآخرة.. إلى جيل جديد نشأ في عالمٍ يُكافئ الجرأة، لا الانزواء. اليوم من يسير “بجنب الحيط” لا يُسمع له صوت، ولا مكان له في عالم يناطح الكل في ساحاته للمنافسة وللتأثير، تغيّرت المنظومة من البقاء في الظل إلى السعي للضوء.
" اللي اختشوا ماتو " هذا المثل القديم كان يمدح الحياء ويُدين التبجّح. لكنه في عالمٍ يرفع شعار “عبّر عن نفسك” و ”كن جريئًا”، صار الحياء يُفهم أحيانًا كعقدة أو ضعف. ومع أن الحياء قيمة لا يجب أن تموت، إلا أن معناه تغيّر، صار توازنًا بين الأصالة والحرية، لا انسحابًا من الحياة.
ما بين "القناعة كنز" و"اطمح أكثر": من غيّر المعنى؟
لم تتغير الأمثال وحدها، بل معايير الحب والوصل والنجاح والعيب والتقدير. الأمثال الشعبية ما زالت جميلة لأنها متخمة بالحنين والذاكرة، لكنها لم تعد صالحة لتوجيه واقع متشابك وسريع. ربما حان الوقت لاختراع “أمثال جديدة” توازن بين الأصالة والتحديث، بين الحذر والمغامرة، بين الحياء والجرأة.
فالأمثال ليست نصوصًا مقدسة، بل هي نبض مرحلة، ولكل مرحلة جيل مثقل بتجاربه الخاصة ،فنحن نعيش في زمنٍ تتغير فيه المفاهيم أسرع من الأمثال نفسها. التكنولوجيا اختصرت المسافات لكنها باعدت بين القلوب، والسرعة أصبحت معيار النجاح حتى في المشاعر، والمفردات تبدّلت حتى صارت بعض الأمثال تبدو غريبة على آذان الجيل الجديد. ما كان يومًا حكمةً يُستشهد بها صار في بعض الأحيان نكتةً تُروى على سبيل المفارقة.
لقد تجاوز الواقع كثيرًا من الأمثال.. لا لأن الحياة فقدت حكمتها، بل لأن أشكال الحكمة تغيّرت. كانت الحكمة قديمًا دعوةً إلى الصبر، الرضا، التريث، أما اليوم فهي مرادفة للمغامرة، التجربة، وصنع الفرصة. هكذا صار بين الأمثال القديمة والواقع الحديث مسافة، لا تُقاس بالأيام بل بتغيّر العقول والقيم.
معلومات عن الكاتبة: مستشارة في العلاقات العامة وصناعة الصورة الذهنية
حساب الكاتبة: https://x.com/hallakhabbaz