

بقلم - الباحث طاهر العجرودي
زرت المملكة العربية السعودية أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، وفي كل زيارة كنت أعود بانطباع جديد عن هذا البلد الذي يكتب فصلاً غير مسبوق في تاريخه الحديث، هناك شيء يتغيّر بسرعة، لكن بعمق؛ وكأن المملكة استعادت وعيها بماضيها لتصنع به جسراً نحو المستقبل.
وأين يمكن أن يتجسد هذا التحوّل أكثر من "الدرعية"، مهد الدولة السعودية الأولى، وفضاء الهوية النجدية، التي تتحول اليوم إلى مختبر عالمي للثقافة والابتكار؟
في حي الطريف، المدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، تجاور البيوت الطينية القديمة مع مشاريع عملاقة تشرف عليها "هيئة تطوير بوابة الدرعية"، مشهد يختزل معادلة دقيقة: كيف نحافظ على أصالة المكان، وفي الوقت نفسه نمنحه روحاً جديدة تجعله حياً، نابضاً، لا مجرد أثر صامت؟
من خلال متابعتي لتجارب عالمية مثل كيوتو في اليابان أو باريس في فرنسا أو سيول مع "الكاي-بوب"، يتضح أن نجاح المدن التاريخية لا يتوقف عند ترميم الحجر أو تسويق الشعار، بل في بناء منظومة متكاملة تجعل التراث منطلقاً اقتصاد إبداعي وهنا تكمن فرادة الرؤية السعودية: تحويل الدرعية من "أصل تاريخي" إلى "أصل ثقافي واستثماري" يفتح آفاقاً لا حدود لها.
في نقاشات أكاديمية حديثة، يُطرح نموذج جديد للاستثمار الثقافي يقوم على خمس ركائز مترابطة الأصل (التراث)، العلامة (الهوية)، الناس (المجتمع المبدع)، المنصات (البنية التحتية الثقافية والرقمية)، والتنويع الاقتصادي. ما شدّني عند تطبيق هذا النموذج على حالة الدرعية هو أن التركيز لا ينحصر في المباني والمتاحف، بل يتجه بالأساس إلى الإنسان.
فالنجاح لن يُقاس بعدد الحجارة التي تم ترميمها، بل بعدد القصص التي سيكتبها الشباب، وعدد المنتجات الفنية التي يبتكرها الحرفيون، وعدد المشاريع التي سيطلقها رواد الأعمال مستلهمين روح الدرعية.
لقد أثبتت التجارب الآسيوية مثلاً أن الاستثمار في البشر هو الطريق الأقصر إلى العالمية، كوريا الجنوبية لم تغزُ العالم بالقصور والمتاحف، بل عبر نظام دؤوب لتدريب المواهب وصقلها حتى ولدت موجة "الكاي-بوب"، واليابان لم تُعرف فقط بمعابدها، بل عبر مجتمعات الإبداع التي صنعت الأنيمي والمانغا، والسعودية تدرك أن أمامها كنزاً بشرياً هائلاً: أكثر من 7.7 مليون مبدع رقمي سعودي فاعل، يمثلون طاقة خاملة إذا لم يتم إدماجها في مشروع مثل الدرعية.
الدرعية ليست مجرد مشروع عمراني ضخم، بل فرصة لتجديد معنى "القوة الناعمة" السعودية. فكما أصبحت باريس مرادفاً للأزياء، وسيول للثقافة الشعبية، يمكن للدرعية أن تكون علامة فارقة في العالم العربي، بل في العالم أجمع: علامة تربط بين الطين والميتافيرس، بين الحكاية الشعبية والمحتوى الرقمي، بين الهوية المحلية والاقتصاد العالمي.
لكن هذا الحلم ليس بلا مخاطر. فمن السهل أن تتحول المدن التاريخية إلى "عروض سياحية" فارغة، أو شعارات دعائية بلا محتوى. ومن هنا تبرز أهمية أن تظل المجتمعات المحلية جزءاً أساسياً من التجربة: الشباب كحكّائين، الحرفيون ناقلين للمهارة، والنساء كرائدات في الصناعات الإبداعية. عندها فقط، لن تكون الدرعية مجرد واجهة مضاءة، بل "مجتمعاً حيّاً" يصدّر قيمة ومنتجاته وأحلامه إلى العالم.
وأنا أتجوّل في أزقة الطريف، لم أرَ الماضي جامداً، بل رأيت المستقبل وهو يُبنى على مهل. تذكرت ما قاله أحد الباحثين: "العمران يمكن أن يبهر، لكن الإنسان هو الذي يمنح المعنى"، وربما هذا هو الدرس الأهم الذي تقدمه الدرعية للعالم: أن الاستثمار الثقافي الحقيقي يبدأ بالعقول قبل المباني، والمجتمعات قبل المنصات.
اليوم، وأنا أكتب بصفتي تونسيّاً زرت المملكة مراراً، أجد نفسي شاهداً على "ثورة ثقافية هادئة" تتشكل في قلب الجزيرة العربية، ثورة لا ترفع الشعارات ولا تكتفي بالاحتفالات، بل تترجم الماضي إلى مستقبل الدرعية ليست مجرد ذاكرة للتأسيس، بل وعدٌ جديد، مفتوح على العالم، بأن السعودية قادرة على أن تكون قوة ثقافية ناعمة، بقدر ما هي قوة اقتصادية صاعدة.