الكاتب : النهار
التاريخ: ١٠:٣٦ ص-٢١ سبتمبر-٢٠٢٥       2860

بقلم: حمد حسن التميمي

في عام 218 قبل الميلاد، وقف القائد القرطاجي هانيبال أمام جبال الألب، يعلم أن عبورها يعني خسارة آلاف الجنود والخيول، وربما انهيار حلمه في غزو روما.

ومع ذلك، قرر أن يخسر الطريق ليكسب المعركة.

عبر الجبال، خسر الكثير، لكنه وصل إلى قلب إيطاليا، وأربك الإمبراطورية الرومانية لسنوات.

لم تكن تلك  الخسارة  فشلاً، بل كانت خطة محسوبة، تفتح بابًا لانتصار غير متوقع.

التاريخ مليء بلحظات كهذه، حين يختار القادة، والمفكرون، وحتى العاشقون، أن يخسروا شيئًا ليكسبوا ما هو أعظم.

أن يتراجعوا خطوة، لا هروبًا، بل استعدادًا للقفز.

أن ينسحبوا من معركة، ليعيدوا رسم الحرب.

لأن الخسارة، حين تُفهم جيدًا، ليست نهاية… بل بداية من نوع آخر.

بداية لا يراها إلا من يملك الشجاعة ليعيد تعريف معنى الانتصار.

في لحظة ما، وأنت تراجع ما حدث، قد تهمس لنفسك: "خسرت". كلمة ثقيلة، تحمل معها شعورًا بالخذلان، وربما بالعار.

لكن ماذا لو كانت  الخسارة  هي أعظم ما حدث لك؟ ماذا لو كانت هي الباب الذي لم تكن تجرؤ على فتحه، والدرس الذي لا يُنسى؟

نحن نُربى على كره الخسارة، على تجنبها، على اعتبارها نهاية الطريق.

لكن الحقيقة أن  الخسارة  ليست النهاية، بل بداية جديدة لمن يعرف كيف يقرأها.

أن تخسر بذكاء يعني أنك لم تُهزم، بل اخترت أن تتراجع خطوة لتقفز بعدها عشرًا.

هو فن لا يتقنه إلا من فهم أن الحياة ليست سباقًا مستمرًا، بل معركة تحتاج إلى استراتيجيات، وأحيانًا إلى انسحاب مؤقت.

التراجع التكتيكي ليس ضعفًا، بل وعي.

أن تعرف متى تنسحب، متى تصمت، متى تترك شيئًا كنت تظنه لك، هو ذكاء نادر.

لأنك لا تهرب، بل تعيد ترتيب أوراقك.

الهزيمة المؤقتة قد تكون أنبل قرار تتخذه، حين تدرك أن الاستمرار في المعركة الآن يعني خسارة أكبر لاحقًا.

الخسارة الواضحة، تلك التي لا يمكن إنكارها، قد تكون أفضل استراتيجية.

لأنها تكشف لك ما كنت تتجاهله، وتضعك أمام نفسك بلا أقنعة.

حين تخسر، ترى من يقف معك، ومن يختفي.

ترى قوتك الحقيقية، لا تلك التي كنت تتظاهر بها.

وتبدأ من جديد، لكن هذه المرة، وأنت تعرف الطريق.

عندما نتحدث عن الخسارة، من المهم أن نعيد النظر في مفهومها ونتعامل معها كمرحلة انتقالية لا كفشل نهائي.

حاول دائمًا أن تكتب الدروس التي تعلمتها من كل تجربة مؤلمة، فهذا التوثيق يساعدك على ملاحظة نموك وتقدمك.

امنح نفسك الوقت الكافي لفهم ما حدث قبل اتخاذ أي قرارات جديدة، ولا تستعجل الردود السريعة التي قد تكون متهورة.

أحط نفسك بأشخاص يدعمونك بصدق، يستمعون لك دون إصدار أحكام ويذكرك بقيمتك الحقيقية.

استخدم التأمل والكتابة الذاتية كأدوات لتصفية ذهنك وإعادة التوازن إلى حياتك.

تقبل مشاعرك الحزينة أو إحباطك دون إنكارها، لكن لا تسمح لها بأن تحدد هويتك أو قيمتك.

وفي النهاية، كن مستعدًا دائمًا للبحث عن فرص جديدة، فكل نهاية تحمل بذور بداية جديدة، ويكون ذلك فقط حين تراها بعيون مختلفة.

في المستقبل، سيكون النجاح من نصيب من احترف فن الخسارة.

من لا يخاف أن يقول "سقطت"، لكنه ينهض بعدها وهو أقوى، أذكى، وأكثر اتزانًا.

العالم لا يكافئ من لم يخسر، بل من خسر وتعلم. من سقط وابتسم.

من انكسر وأعاد بناء نفسه بيديه.

تخيل نفسك بعد سنوات، تنظر إلى تلك اللحظة التي ظننت أنها نهاية، وتضحك.

لأنها كانت البداية الحقيقية. لأنك، لو لم تخسر، لما كنت ما أنت عليه الآن.

الخسارة تصنع فينا شيئًا لا تصنعه الانتصارات: عمقًا، نضجًا، وامتنانًا.

وفي النهاية، لا تخف من أن تخسر.. خف فقط من أن تمر بالخسارة دون أن تتعلم منها.

لأن الحياة لا تقيسنا بعدد مرات الفوز، بل بطريقة تعاملنا مع الهزيمة.

احترف فن الخسارة، وستكتشف أنك كنت تربح طوال الوقت… فقط بطريقة مختلفة.

كما قالت الشاعرة إليزابيث بيشوب في قصيدتها التي ألهمت رواية "فن الخسارة": "فن  الخسارة  ليس من الصعب إتقانه."

ولكننا لا نتمكن من إتقانه إلا عندما نعيد تعريف الخسارة، وندرك أن بعض الخسارات ما هي إلا بدايات جديدة متنكرة تنتظر أن نراها ونحتضنها.

فربما، كانت  الخسارة  هي الطريقة الوحيدة لتصبح أنت.

حساب الكاتب:
Instagram: hamadaltamimiii