

بقلم: جمعان الكرت
قليل من المدن تترك في نفسك أثرًا عميقًا، ليس بطول المدة التي تمكثها فيها، بل بما تملكه من شفافية مدنية وملامح فياضة بالحُسن، وبروح نابضة ومخزون تاريخي ثري. فالمدن مثل البشر، لها وجوه وسمات، بعضها يخطف بصرك ويتجذر في شرايينك، ويأخذك إلى عوالم من الخيال.
ربما عند مشاهدة الوجوه الكادحة وهي تعزف إيقاع صلابة الحياة، أو عند رؤية السواقي تنشد معزوفة الماء لإرواء سنابل القمح وأغصان الزيتون والبرتقال، أو في الصناعات التراثية التي تختزن الزمن وتُقدّم مسرحًا نابضًا بالفن والإبداع والجمال. وقد يكون في أكمام الأزهار المتداعبة كسمفونية جذلى، أو في جدول فضيّ يترقرق بين الحقول، أو في نهر عظيم ينساب نحو البحر، أو في شاطئ يفرش رمالًا ذهبية تحت بيوت بيضاء كحبات اللؤلؤ، أو مدينة تعانق البحر بحميمية وحنو.
لكن بعض المدن، رغم ضجيجها واتساع ميادينها وتسامق مبانيها، لا تترك فيك سوى ومضة عابرة كزجاجة عطرية فارغة معروضة في واجهة، تراها دون أن تملأ روحك.
المدن إذًا وجوه متباينة، وأجملها ما تماهى في ذاكرة التاريخ واحتفظ بموروثه الاجتماعي، حيث تتشكل اللوحات العتيقة، وتفيض وجوه أهلها بالبِشر رغم شظف العيش، مثل هذه المدن تتسرب إلى وجدانك كتسرب العطر الذكي أو المياه الرقراقة بين سنابل الحنطة، فترتوي بها الروح، وتبقى صورتها راسخة في الذاكرة، تشدك إليها كلما هممت بالسفر، لتتنفس عبق هوائها وتستمتع بجمالها.
هكذا أطلت في مخيلتي مدينة الباحة؛ لوحة فاتنة تتموسق على قمة عالية من جبال السروات، تحتضنها الجبال من كل الجهات، وتغمرها الخضرة كأنها غرست وسط خميلة وارفة، تتنفس عطر النباتات الجبلية، وتستقبل رذاذ الضباب في ربيعها وشتائها، وتغتسل بيوتاتها بمطر السماء، فتختال كعروس بهية المحيا، تمنحك دفئها وتبوح لك بأسرارها.
تدعوك للتنزه بين رغدان والزرائب والشكران، وتمنحك من شرفاتها إطلالة ساحرة على انحدارات تهامة، حيث ازداد الوصل بعد إنجاز طريق العقبة، حتى تصل إلى قرية ذي عين التراثية، التي تتوضأ بمائها الرقراق وتُهدي أشجار الموز والكادي شدوًا جميلاً يسري في الشعاب كسمفونية مترعة بالحُسن.وتتموسق حتى تعانق قمة جبلي شدا الأعلى والأسفل.
ولأن الباحة بهذه الروعة، فإن العناية بها واجب، لتكون محط رحال السائحين والمصطافين وعشاق الطبيعة.
كوجهة سياحية عالمية، وهنا تقع المسؤولية الكبرى على وزارة السياحة والمكتب الاستراتيجي وأمانة وبلديات المنطقة ورجال الأعمال، فالسياحة صناعة متكاملة، لا يكتمل نجاحها إلا بتضافر الجهود، بدءًا من العناية بملامح وجه المدينة، وتعزيز مكانتها كوجهة سياحية رائدة، والحفاظ على طبيعتها وتراثها العريق، وصولًا إلى مشاريع تنموية تحقق التكامل بين السياحة والزراعة والعمران، وتوفر بيئة جاذبة للاستثمار، وتتيح فرص عمل جديدة، بما يرتقي بجودة الحياة ويعزز مكانة الباحة كوجهة سياحية نابضة بالجمال على مدار العام.

