

بقلم: الصادق جادالمولى
في حياة الأمم يجيء زمن تتقاطع فيه الطرق بين الممكن والمستحيل؛ وتطل فيه شخصية قادرة على أن تمسك بزمام اللحظة فتمنحها اتجاهًا ومعنى، وحين أطل سمو سيدي ولي العهد – حفظه الله- برز إلينا رجلٌ يعرف إلى أين يذهب ويعرف أن من لا يعرف وجهته يضيع في متاهة الأيام، إذ لم يدخل ولي العهد المشهد كمن يعبر بابًا مجهولًا فقد جاء من عمق التجربة، ومن مسارٍ طويل تتشابك فيه المعرفة مع الرؤية، وينسج فيه الحلم خيوطه على مهل.
فمنذ البدايات كان سموه يقرأ التاريخ كما يقرأ المرء مذكرات سرية يبحث عن المفاتيح المخبوءة بين السطور، ويجلس إلى الشيوخ وكبار السن ليأخذ من ذاكرتهم ما لا تمنحه الصفحات المطبوعة، ومَن عرفه عن قرب يدرك أن صورته الحقيقية لا تُلتقط في مؤتمرات القمم وحدها وإنما في تلك اللحظات التي يخلو فيها المكان من الأضواء، ففي جلساته الخاصة مع مستشاريه وأصدقائه والتي تمتد لساعات طوال تُطرح الأسئلة الكبيرة عن اقتصاد الغد وتُرسم الخطوط العريضة لمدن لم تولد بعد، ويتحدث خلالها عن المستقبل كما لو كان لوحة بيضاء في غرفة صغيرة، ويمد يده إلى الألوان فيمزج بين الجرأة والحكمة ويرسم طريقًا يُسافر فيه الخيال قبل أن تلحقه الجغرافيا، وفي قلب سموه مكان للماضي حيث لا يتعامل معه كصورة معلّقة على جدار بقدر ما هو جزء من وعيه الحاضر، ويستحضرني في ذلك إحدى مقابلاته والتي استعاد سموه عبرها ملامح السعودية قبل عقود حين كانت الشوارع أوسع بالفرح والسينما مفتوحة الأبواب، والنساء يمسكن بالمقود بثقة، لقد كان صوته وهو يتحدث في تلك المقابلة يحمل نغمة حنين وكأن الأيام القديمة تلوّح له من بعيد وهو يردّ التحية برؤية جديدة ومعايير تليق بقرن جديد.
والجانب الإنساني فيه لا يحتاج إلى إعلان فهو يتسرّب في مواقفه وفي اختياراته، فحين يذكر العدالة وهنا أتذكر لقاء آخر لسموه يضع بجانبها الرحمة ويستحضر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في التريث قبل إصدار الأحكام وفي منح المخطئ فرصة للعودة، وذلك منبعه إيمانه بأن العدل الذي يخلو من الرحمة ليس عدلًا وأن الحكم الذي لا يُنصف القلب يظل ناقصًا مهما اكتملت نصوصه، ورغم صرامة التوقيت ودقة المتابعة يبقى في داخله الشاب الذي لم يتخلَّ عن أحلامه لذا تجد سموه يتحدث عن الكتب التي تصاحبه والرياضة التي تملأ رئتيه بالهواء، وعن تلك الأحاديث الودية مع الأصدقاء التي تبدأ بابتسامة وتنتهي برسم مخطط لمستقبل أبعد مما يتخيل الحاضر، ولعل هذا الوجه الخالي من البروتوكول يجعل صورته أكثر قربًا من ملامح الناس وأقرب إلى وجدانهم.
وحين يقود سموه مشاريع بحجم نيوم وذا لاين فإنما يراها حياة تُبنى لا جدرانًا تُشيّد ففي نظره التنمية روح قبل أن تكون جسدًا وفكرة قبل أن تكون إسمنتًا وحديدًا، والسر في أنه يؤمن أن المدن التي لا يشعر أهلها أنهم شركاء في بنائها ستبقى أبراجًا بلا نبض، وهو في عين من يتأمله رجل المستقبل الذي يمشي بخطى الماضين العظام، ويرى المملكة قصةً تُروى ويعرف أن دوره أن يكتب فصلها المقبل من دون أن يقطع الصفحة التي قبله أو يترك السطر ناقصًا، ومع كل ذلك فإن الأقرب إلى قلبه أن يرى الشاب السعودي يصنع فكرته بيده، وأن يرى المرأة السعودية تمضي بخطوات ثابتة نحو مكانها الطبيعي في كل مجال، فالإيمان بالإنسان عنده سابق على كل شيء وهو أصل البناء قبل الحجر وأساس النهضة قبل الطريق، والذين جالسوه يقولون إن الحوار معه رحلة تبدأ من ضفة شخصية جدًا ثم تعبر سريعًا إلى بحار السياسة والاقتصاد والفن لامتلاكه مهارة الإصغاء العميق وقدرة الإقناع الهادئ ومعرفة متى يترك الصمت يعمل عمله في العقول.
وهذه هي الملامح التي تجعل صورته الإنسانية تضاهي في تأثيرها صورته كقائد، ومن يعرف الفرق بين الاثنين يعرف أن التاريخ لا يُكتب بالحروف وحدها وإنما بالنبض الذي يسكنها، ويبقى سمو الأمير محمد بن سلمان في عيون كثيرين وأنا منهم ليس فقط مهندس الرؤية وإنما مهندس الأمل لأننا تعلمنا منه أن الغد أجمل مما نتخيل، وأن الطريق إليه يُعبد بخطوات ثابتة وبقلب يعرف أن القيادة الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي عنده.

