الكاتب : النهار
التاريخ: ٠٨:٠٥ م-٣٠ يوليو-٢٠٢٥       7590

بقلم  / موضي العمراني

في زحام الأيام، حين لا يُنصفنا الحظ، ولا تجبرنا الظروف، نجد في الكتابة ملاذًا صادقًا، ومساحة نمارس فيها وجودنا الأعمق. هذا المقال هو تأمل شعوري في العلاقة المعقّدة بين ما نكتبه بصدق، وبين ما يُكتَب لنا من قدر. محاولة لفهم لماذا نلجأ إلى الورقة حين يخذلنا الواقع، ولماذا تبقى بعض الكلمات عالقة بين القلب والحبر

ثمة لحظات لا يكتب فيها القلم، بل ينزف. لا ينقل أفكارًا، بل يبوح بأسرارٍ ظلّت طيّ الكتمان في دهاليز الشعور.
نكتب، لا لأننا نتقن الكتابة، بل لأننا لا نجد وسيلة أخرى للنجاة من زحمة الإحساس، ولا ملاذًا أرحب من الورق حين تضيق بنا الحياة.

كم مرة حملنا القلم، وهمسنا للورق
لكنها، كأنها تهيّبت البوح، وارتبكت تحت وطأة ما نحمله من وجعٍ أو شوق. فتقف الكلمات عند أول السطر، تائهة، خجلى، كأنها تستأذن الدخول إلى مقام الشعور… فلا يؤذن لها.

فاللغة مهما ترقّت، تبقى قاصرة عن بلوغ تلك الأعماق التي لا تُرى، حيث تسكن تفاصيلنا الصغيرة، وتنبض أمنيات لم نجرؤ على نطقها.
ما يسكننا، أحيانًا، لا يُقال… بل يُشعر. يُرتجف له، ويُسكب من بين السطور، لا فيها.

ثم هناك أولئك الذين نكتب عنهم…
لا لأنهم طلبوا منّا ذلك، ولا لأنهم يعلمون.
نكتبهم لأنهم مرّوا بنا كما تمرّ المعجزة: بلا استئذان، وبلا تفسير، وبأثرٍ لا يُمحى.
نرفعهم من خانة العابرين إلى رتبة الخالدين في وجداننا. نُقدّمهم للحرف بخشوع، ونمنحهم مقام الأسطورة، لا لأنهم فوق البشر، بل لأنهم كانوا “أكثر بشرًا” مما تحتمل قلوبنا.

ومع كل هذا الصدق، ومع امتلاء السطور بالنقاء، يبقى شيءٌ عصيّ: الحظ.
ذاك اللئيم المتقلب، الذي كثيرًا ما يأتي متأخرًا… أو لا يأتي.
الحظ الذي يخذلنا ونحن في أقصى لحظات الشفافية. يمرّ على الكلمات دون أن ينظر، كأنّه لا يعرف كم كانت تلك الجمل محاولة إنقاذ.
كأن بينه وبين قلوبنا خصومة قديمة، لا يريد أن ينهيها.

ومع ذلك… نكتب.
نكتب لأننا نؤمن أن الحرف مقاومة. وأن الإفلات من الواقع، أحيانًا، لا يكون إلا بالتحليق على ورقة.
نكتب لأننا نحب، ولأننا نحزن، ولأننا نحلم… وكل من يحب ويحزن ويحلم، لا بد أن يكتب.

قد لا تغيّر الكتابة الحظ، لكنها تغيّرنا.
قد لا تمنحنا ما نشتهي، لكنها تمنحنا أنفسنا… كما نحب أن نكون: صادقين، واضحين، أحياء

وقد لا تُغيّر الكتابة الحظ، لكنها تغيّرنا نحن.
تربّت على جراحنا، وتُعيد تشكيلنا بصبر الحروف، وتجعلنا نرى الألم من زوايا أكثر جمالًا، وأقلّ وجعًا.
نكتب، لا لنغيّر قدَرنا، بل لنحتمله بلغة أجمل.

    “الكتابة ليست ترفاً، إنها إنقاذ.”
— رضوى عاشور

فامضِ أيها القلم، وكن صديقًا للذين أثقلهم الشعور، ولم تسعفهم الظروف… في زمنٍ خذلهم فيه الحظ، ولم تخذلهم الكتابة